الجمعة، 3 فبراير 2012

Love in the Time of Cholera

فكرت هوليوود 22 سنة لتحول واحدة من اعظم اعمال القرن العشرين الادبية 'الحب في زمن الكوليرا' ذات ال 348 صفحة الى فيلم ب 138 دقيقة. وبعد ان اتخذ القرار، كانت مساهمات غابريل غارسيا ماركيز في الفيلم اقل ما يمكن، فالكاتب العظيم بلغ الثمانين عاما واكتفى باهداء المخرج مايكل نيويل نسخة من الرواية عليها بعض الملاحظات لا تتعدى بضع صفحات، لكن نيويل ادرك ان ماركيز كتب كل ما يريد قبل عشرين سنة في الرواية كما ادرك ايضا الفارق بين اخراج رواية هاري بوتر وعمل لماركيز. لكن ماركيز بذل جهدا استثنائيا لدى لقاءاته المتكررة مع الممثل خافيار بارديم لكي يساعده في تفهم حالة فلورينتينو اريثا وكيف استطاع حمل حبه طوال 51 سنة وفوق ذلك تاكيده له بعد كل هذه الاعوام. ومحنة بارديم كانت تواجه اي شخص يقرأ ماركيز، فهذا الكاتب تستطيع قراءته ولكن ما القدرة التي تملكها لتسمح لنفسك ان تصبح نسخة للتعبير عن اوصافه المعقدة وتستسلم لها بكل سرور.



روايات ماركيز في السينما
يذكر ان 'الحب في زمن الكوليرا' لم يكن الفيلم الاول الذي صور روايات ماركيز، فقد سبقه فيلم 'ارينديرا البريئة' الذي اخرجه البرازيلي راي جويرا في عام 1983 دون ان يؤثر النص السينمائي على الرؤى الباطنية للنص الروائي. وفي عام 1987 اخرج الايطالي فرانسيسكو روسي رواية 'قصة موت معلن' مثلها النجمان روبرت افيريت وارنيلا موتي، وكذلك حولت روايته 'ليس لدى الكولونيل من يكاتبه' الى شريط سينمائي عام 1999 بواسطة المخرج المكسيكي ارتورو ريبستين، بطولة فرناندو لوجان وسلمى حايك. بينما كانت رواية 'في ساعة نحس' آخر عمل روائي لماركيز يحول الى السينما عام 2004، اخرجه البرازيلي راي جويرا الذي كان قد اخرج له اولى رواياته. وكان ماركيز قد ساهم في كتابة العديد من سيناريوهات الافلام في فترات مختلفة من حياته.


الفريق الذهبي
ربح الفيلم كاتب سيناريو فريد الطراز هو رونالد هاروود الحائز جائزة الاوسكار عن فيلمه 'عازف البيانو' الذي درس كل تفاصيل القرية الكولومبية الصغيرة كارتاغينا وميناء برات اللذين جرت فيهما اغلب مشاهد الفيلم كعملية اختراع العالم الذي حدثت فيه الرواية. وحسب تصريحات المخرج مايكل نيويل فانه قد عانى كثيرا في مسالة اختيار الشخصيتين الرئيسيتين، وكان يريد لدور فلورينتينو اريثا شخصا يمكنه ان يكون شابا بعمر 15 سنة ويشيخ باقناع لغاية 75 عاما مع امتلاك الملامح والنظرة الكلاسيكية الغامضة، ولم يعثر على افضل من النجم الاسباني الكبير خافيار بارديم الذي تدفق عطاؤه المدهش في فيلم 'اشباح غويا' وتطلب منه فقدان 16 كيلوغراما ليقترب من نحول اريثا. وتطلب لدور فيرمينا داثا امريكية لاتينية سوداء العين فوجد بعد بحث الممثلة الايطالية جيفانا ميزغيرونو وكانت سنواتها ال 33 تسمح لها بلعب دور الفتاة والعجوز. وهناك ممثلون آخرون من كولومبيا والبرازيل والولايات المتحدة.
سيناريو متكيف
يبقى عمل سيناريو هاروود متكيفا مع احداث الرواية، راسما صورة الدكتور خوفينال اربينو (بنجامين برات) ورفعته منذ المشاهد الاولى وهو يطمئن عروسه العذراء فيرمينا داثا (جيفانا ميزغيرونو)، مانحا بذلك درسا في العشق، وبالطريقة نفسها تم تقديم الولهان فلورينتينو اريثا (خافيار بارديم) الذي يملك قدرة على فهم اللحظة والتعامل معها بدقة، كمراهق وشاب ورجل اختار الانصياع للغزو الجنسي لاسكات قلبه المقهور، ومن ثم عجوز ذابل مؤمن بانه سينتصر مهما امتدت به الحياة وسيظفر بهدفه مهما طالت، كادعاء دانتي في ان يلهم حياته الكاملة لبيتريس ضابطا شوقه ومعاناته لغاية الانتقال نحو الانتصار في الخاتمة. ويبدو ان معضلة السيناريو كانت رغبته في عرض كل شيء في الرواية وعدم حذف الاجزاء التي احبها القراء في الرواية، خصوصا الهيام الجنسي الذي وقع به فرناندينو اريثا بعد هزيمة حبه وبحثه المستمر عن الحب مع 622 امرأة، ضاربا الرقم القياسي لكازانوفا عدة مرات كمحاولة لان يحبها من خلال اجساد نساء اخريات، الامر الذي صعب من مهمة مايكل نيويل حيث تطلب منه المزيد من الجهد والاماكن والشخوص والاموال، والاهم في ما واجهه السيناريو حتمية التفريق ما بين الجنس العادي الذي كان يمارسه اريثا على الدوام والحب الكبير الذي احتفظ به داخل قلبه والعاطفة الكبيرة التي جعلته يذعن للحب من حبيبة رفضت الشاعر الفقير واختارت الطبيب الثري، كالاسئلة التي حيرت ميشيل فوكو لمعرفة الحب الحقيقي، من ينبغي حبه، وباي شروط وما هو الحب في كينونته ذاتها؟ وحتى في البناء الافلاطوني وطرق التذكير التي يجيب بها اكزنوفون: التقابل بين الحب الذي لا يسعى الى متعة والحب الذي يهتم بالمحبوب نفسه وضرورة تحويل العابر الى صداقة متساوية، متبادلة ودائمة، ووضع حد فاصل بين حب النفس وحب الجسد الذي يحتقره في ذاته. ان مخطوطة هاروود حملت الكثير من الاجزاء البارزة لحوارات ماركيز وبغض النظر عن ورودها في السياق، الا ان الرواية يقرأها المثقفون والفيلم يشاهده العامة، ويبدو ان كاتب السيناريو مال الى جهة انصار ماركيز الذين لا يحبذون التهاون مع اجزاء مؤلفهم وروايته التي استمرت لسنوات الاكثر مبيعا في العالم. كما ان السينما تنتزع القصة من دون لغتها، كمن يقدم الغبار والعظام ويهمل القلب، وماركيز الذي شاع اسلوب اميركا اللاتينية الاستثنائي في الواقعية السحرية وبفضله اصبح شعبيا يتميز بان نثره يلعب على التناقضات الذي يعتبر افضل من يسخر منها في تاريخ الادب واحيانا لا نجد واقعية، سحرا فحسب يستطيع اقناعنا باهمية حدوثه، لذلك فان خيال ماركيز الواسع كان خرسانة الفيلم التي وقف عليها بثبات.


ثمار الإخراج
لقد افتتح نيويل الفيلم ليس كما افتتح ماركيز الرواية، وفضل المخرج الدخول مباشرة مع سقوط الدكتور خوفينال اربينو من السلم كاعلان موت الحب غير المتبادل مع فيرمينا داثا ومواجهة عذاب الذاكرة وتجريدها من حلوها ومرها، وكشف المصير لشيخوخة تكفيها زلة واحدة نحو الموت محيلا ايانا الى ذكريات افلام عميقة منحتنا اللغة نفسها، قدمها فيسكونتي وامبيرتو سول، حكايات الحب المحظور والفاشل، الحب المنكوب بلا ارادة احد، ذلك الحب الوقور الذي طالما مني بالخيبة. ولم يجهد المخرج نفسه في تصوير الحروب المتنوعة والاوبئة والاشخاص الثانويين في الرواية، ولن يحظى المشاهد بمؤثرات بصرية ولا موسيقى محفزة، رغم ان عمل انطونيو بينتو كان مؤثرا جدا في المشاهد الضرورية، ويعد هذا اسلوب نيويل الذي يتبنى سينما الخط الجديد: النهر المهيب الذي تودع فيه ثروات الثقافة الكولومبية، الديكور، الجنس، المرح، صوت شاكيرا الحيوي الذي يرافق الموسيقى التصويرية. ويمكن الادعاء بان الشريط فارغ من جماليات الفن السينمائي الرائج ومن الواضح ان مايكل نيويل لم يبارح الكاميرا طيلة فترة التصوير.
فيلم العوائق والمسافات
ان 'الحب في زمن الكوليرا' يعتبر فيلم العوائق والمسافات، فماركيز كتب الرواية بالاسباني والفيلم قدم سيناريو معتمدا على الترجمة الانكليزية وقدم بهذه اللغة ايضا وما بين الرواية والسينما من عوائق تضاف المسافات ما بين لغة واخرى، ناهيك عن ان مايكل نيويل بريطاني وليست لديه تجارب ولم ينغمس في الحياة الكاريبية، حيث تقع احداث الرواية. اضف الى ذلك ان الرواية تتحدث عن فترة تتجاوز الخمسين عاما بما يتطلب ذلك من تغيير في كل شيء: المدينة، الملابس، السيارات، السفن، اعمار الممثلين، كل شيء ينبغي ان يتطور كما في الحياة، وجرت العادة في السينما ان تحذف المشاهد التي تكلف الانتاج كثيرا او تؤذي الشكل الفني في حالة عدم تحقيقها، فالسينما تغض النظر عما يحرجها، لذلك لابد ان ترزح للديكور والرسم والمؤثرات الاخرى والعمل المقرف في الاستديو. (هذا لا يعني ان الانتاج بادارة سكوت ستيندورف كان يبخل على العمل فقد اهدر عليه 50 مليون دولار). ورغم ذلك نجح نيويل في ما هو اهم، انه منح الرؤية واللمسة الحادة واضاء نظرة المشاهد واخترع له اللمعان في يوم لم تشرق فيه الشمس.

صورة 'فلورينتينو ـ بارديم '
لفلورينتينو روح شاعر وهذه امسك بها المخرج نيويل والممثل المبدع خافيار بارديم الذي تمت مساعدته بشكل كامل من فريق الفيلم برمته فقد كانت الكاميرا تخدمه وكذلك فعلت المؤثرات والصوت وكان في اغلب اوقات الشريط على مرمى البصر كقلبه المعلق بتأرجحه العاطفي بين النساء وتوفيقه مع الكوميديا الصعبة والمرح الماكر الذي يبدأ به فتوحاته الغرامية عادة. ان تجسيد مثل هذه الشخصية يحتاج الى بصيرة وذكاء وقدرة واستعداد وسحر وتلبية متطلبات السينما ايضا ولعلها كانت مهمة مستحيلة، لذلك كان ماركيز يجتمع مع بارديم اكثر من الوقت الذي قضاه مع المخرج نيويل، فالكاتب الكبير ادرك ان مفتاح تفوق الفيلم يكمن في صورة فلورينتينو اريثا وكان عليه ان يحمل المهانة والفشل وفقدان حب كان في متناول اشعاره ومن ثم اتصاله الطويل المدى مع نساء كن يداوين غرامه المرجو منذ امد طويل.لذلك بدأ فلورينتينو كعازب محترف غريب الاطوار في الرواية وكان يضلل نفسه كثيرا، ويبخر رغبته باستخدام نساء مختلفات كوكيلات لحبه الضائع ولو برز في عصرنا شخص مثله لتهاوى عليه الاطباء النفسانيون وسيكون مصنفا من الصحافة وشرطة المدينة كمهووس رسمي نصفه تهيمن عليه علاقة حب والنصف الآخر مازوشي تجدر مراقبته. يقول فلورينتينو في واحد من حواراته بانه 'لا شيء اكثر صعوبة من الحب'، ولهذا يقترح الفيلم حججا مضادة، وبهذا المعنى يمكننا استخدام اسلوب ماركيز في الدعابة وتحويل الجملة كالتالي: لا شيء اكثر صعوبة من تحويل الحب في الروايات الى الشاشة، وهذا ما كان يؤرق خبراء هوليوود لنحو 22 عاما. لا احد ممن كانوا ينتظرون ظهور الرواية على الشاشة استطاع الاستعجال، كمصير فلورينتينو نفسه الذي انتظر 51 سنة، لكن الحب جاء في زمن الكوليرا، كما جاء الشريط في زمان لا احد يمكنه تصديق حكاية التجريد الرومانسي والاحباط الذي يتحول بعد صبر طويل الى انتصار، ان الجمهور المعاصر قد يسخر من هكذا حكايات او يقابلها ببرود وباحسن الاحوال بدهشة غير المصدق. اي من سكان الكوكب الحاليين بمستطاعه صرف نصف قرن على قراءة الشعر الرومانسي واغواء النساء بحثا عن سيدته العظيمة، الا يبدو الامر مملا للجمهور المعاصر؟ نعتقد ان هذا سر اجتماعات ماركيز الطويلة مع بارديم، لكون فلورينتينو امتلك مفتاح نجاح الفيلم او سقوطه، وبدون تردد حقق خافيار بارديم فوزا مذهلا لا يقل شأنا عن الانتصار الخرافي لفلورينتينو، فقد امتلك الممثل والشخصية التي لعبها العنصران الرئيسيان للظفر: التحدي والامل!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق