الجمعة، 3 فبراير 2012

Goya's Ghosts


نحن في إسبانيا 1792 لنتابع ميلودراما يقدمها المخرج التشيكي المميز الذي هاجر إلى الولايات المتحدة في فيضان موهبته، المجنون الذي بدأ مهنته بالدراسات الرفيعة في ديناميكا الموجة الجديدة للسينما وتفوق في دراسته عام 1965 ميلوس فورمان صاحب الإنجازين السينمائيين الفذين 'أمادويس' و'الطيران فوق عش الوقواق'، الشريطين اللذين منحاه ثماني جوائز أوسكار والذي لم يخرج أي فيلم منذ 'الدوران حول القمر' عام 1999 وبانت السنوات الثماني التي قضاها بلا عمل على شريطه الجديد بسبب ذبوله المحتملفي المشاهدة الأولى للفيلم ينبثق انطباع بأن في الشريط البالغ طوله ساعة و 54 دقيقة، الكثير من السياسة والفلسفة الدينية والتبختر في صالات اللوحات الخالدة تدار بأسلوب المسلسلات التلفزيونية المسرفة الإطالة تنقل صور الفوضى الأخلاقية واليومية لإسبانيا الرازحة تحت حكم ملكي فاسد وتجبر الكنيسة اللذين كانا يعممان الظلم. وينشغل فورمان كثيرا ليعطي مساحة واضحة لآلام القرن الثامن عشر محاولا الانفلات منها لعكسها على عصرنا بطريقة انهيال التاريخ في الراهن ساعدته مخطوطة كتبها جين كلود كارير بتعاون ثان مع لوريس ويل بو ومشاركته المباشرة في كتابة السيناريو.لكن الانطباع الأول سيزول ليحصد الفيلم على أقل تقدير وصفا جميلا جدا منذ افتتاحه بتصفح لوحات غويا واستقصاء جناح لوحاته، وهناك تصرف مقبول بالسيرة الخاصة لغويا من قبل المؤلف ولا يلاحظ عبثا كبيرا في تاريخ هذا الرجل ولا بتلك الأحداث التي جرت في عصره.

حزمة مواهب كبيرة
تبرز موهبة خافيار بارديم (رشح للأوسكار كأفضل دور رئيسي) بالتلاعب والتناغم الرائع لأداء الصوت وإلقاء مدعم بتمثيل على نمط المسرح البريطاني وكنا نحسب أن لورنس أوليفيه حاضرا في 'هنري الخامس'، لكن على الرغم من محاولاته ظهر مثل شكسبيري مزيف ولكنه ذكرنا ببيتر أوتول في 'الأسد في الشتاء' وريتشارد بيرتن في 'مرة من الأيام الألف'، محاولا استرداد الوزن الثقافي الكبير للأزمنة الخوالي لبيرتون وأتول وآخرهم ميريل ستريب الذين خلقوا الجمهور المثقف، مقدما دور الأخ لورينسو الكاهن الداعر، بينما جسد شخصية الفنان الإسباني فرانسيسكو خوزيه دي غويا 1746 ـ 1828 (ستيلان سكارسكارد) ككاثوليكي مستقيم ينكر إيمانه الصارم أحيانا لاسيما حينما يتم اتهام بنت صغيرة بأنها يهودية لكونها لم تتناول صحن لحم خنزير فظيع المظهر في حانة. وتكاد ناتاليا بورتمان تثبت في كل مشهد أنها ممثلة مسرحية من طراز خاص مقدمة دور إنيس بلباتو ابنة تاجر محلي ثري يستخدمها غويا كموديل للملائكة الذين كان يرسمهم على جدران الكنائس.سكارسكارد سيحتفظ بابتسامته قدر ما يستطيع وأسلوبه في التمثيل فيه ثقة فنان كبير قادر على خرق القواعد وبلا مبالغة كان حريصا على أن تخرج الأحداث ابتداء منه وهو لم يكن شريرا في عالم شرير بما يكفي حوله، لذلك لم يعترض على بعض الدناءة العرضية التي لم يجهد في إقناع نفسه على رؤيتها أو التعايش معها.

الروعة البذيئة
يبدأ الفيلم بعرض رسومات غويا وبعدها مباشرة كان كبار الكنيسة الإسبانية يدينون تخطيطات غويا التي صورت تعذيب المنشقين والزنادقة وحديث حول حث الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بتحصين نفسها وتنشيط عمليات الإقصاء لتنقية الأرض منهم.يلي ذلك مشهد رمي جثة حيوان في واحد من بساتين الملك البليد كارلوس الرابع لكي تتجمع عليها الطيور ويصطادها بشبق لكون الملكة ماريا لويزا فضلت العقبان لعشائها وهو إيحاء مبكر من فورمان وموفق إلى حد بعيد لتهيئة المشاهد للدنيا الفاجرة التي سيقدمها فيما بعد والروعة البذيئة لبيوت الملوك، فيما شوارع المملكة تعج بالحياة الساقطة وسط الموت الرخيص.
الحياة على طبق خنزير
لم تفعل إنيس شيئا سوى أنها عبرت عن اشمئزازها من طبق الخنزير، ولأنها لم تجده شهيا، فضلت حساء الدجاج عليه وبعض البطاطا، لكن عينا كانت تراقبها كتبت تقريرا إلى الكنيسة لتتهمها في اليوم التالي أنها تخفي سرا معتقدها اليهودي لتبدأ بعد ذلك سلسلة رهيبة من عمليات التعذيب التي عرفت بها أقبية الأديرة في القرن الثامن عشر।ستعلق إينيس عقوبة على شهيتها المفقودة وستسحل عارية وسيغتصبها الكاهن لورينسو وتجبر على توقيع اعتراف بأن جدها قدم إلى إسبانيا عام 1620 من أمستردام وأخفى أصلهم اليهودي بعد اعتناقه الكاثوليكية.في هذه الأوقات كان غويا يطلي الكنائس بوجوه الملائكة وفي الوقت نفسه يقدم نفسه على أنه 'الرسام الملكي' على الرغم من أن الملكة ماريا لويزا (بلانكا بورتيللو) المعروفة بعدم جاذبيتها لم تمتدح اللوحة التي رسمها لها وهي على حصانها لأنه أظهر عمرها الحقيقي بملامح وجهها الأصلي.
فلسفة التعذيب
والد إنيسا (خوزيه لويس غوميز) سيكون في عصر اليوم ذاته عند غويا لأنه يعرف بأنه يرسم لوحة للأب لورينسو الذي كان يشرف على تعذيبها وفي هذه اللحظة كان يغتصب ابنته في السجن।لم يطلب والدها من غويا سوى رؤية هذا الرجل، مشيرا إلى البورتريه الذي أكمله وبعد توسل قبل غويا ترتيب لقاء عشاء في بيت التاجر الثري.هنا بدأت محاورة عميقة جدا بين خوزيه غوميس وخافيار بارديم الداخل تماما في شخصية الأخ لورينسو والمصر على أن الله سيعطي القوة لقول الحق فقط، لكن التاجر يعتقد أن التعذيب سيجعل المرء يقر بأمور غير موجودة وبأي شيء إذا أجبره العذاب على ذلك. ولكي يثبت نظريته أمر أبناءه بتعليق لورينسو في الثريا المتوسطة صالة الطعام وأجبره على توقيع ورقة يقر فيها أنه قرد!سيتركه والد إنيسا ويعده بحرق الورقة ما ان يرى ابنته في البيت، لكن لورينسو لا يستطيع إطلاق سراحها ففي هذه الأثناء حملت منه في سجن الكنيسة وهو الكاهن الكاثوليكي المعروف، لذلك قرر الهرب إلى فرنسا ليلتحق بالثورة هناك وقبلها سيزورها للمرة الأخيرة في السجن ليغتصبها من جديد بالعبارة المشفرة التي أصبحت تعرفها: 'لنصل معا'!يداهم حرس الكنيسة مرسم غويا ويسحبون بورتريه لورينسو ويحرقونه وسط الساحة بموسيقى صفير الحضور واستهجانهم من الهارب وخائن الكنيسة وفي غضون سماعه للصفير سيفقد أهم رسامي عصره فرانسيسكو غويا السمع.

بعد 15 سنة
ستدخل جيوش نابليون وتحرر إنيسا وغيرها من سجون الكنيسة في مشاهد فيها تأثير فيكتور هيغو والكسندر دوماس لتزور بيتها القديم। ستراه وقد نهبه العامة وقتلوا والديها وأخوتها ولم تجد غير باب غويا لتطرقه فيضع في يدها قطعة معدنية متصورا أنها شحاذة، لكنها تومئ إليه بلوحتها التي رسمها لها قبل 16 سنة، فيدعوها للدخول ويعد لها شيئا تأكله ويعطيها قلما وورقة لتسرد له كتابة ما حصل لها ولم تذكر سوى أنها تبحث عن ابنتها التي أخذوها منها في السجن ما إن بدأت تشم حليبها.وفي هذه اللحظات سيترأس لورينسو العائد إلى إسبانيا مع القوات الفرنسية محكمة تصدر حكم الإعدام بالأب جريجوريو وكل زملائه السابقين في الكنيسة. لكنه سيؤجل تنفيذ الحكم بعد أن زارته إنيسا بصحبة غويا لتخبره بأن لهم ابنة سيلقى بها مجددا في مستشفى المجانين. ويزور الأب جريجوريو في السجن ليعلم بحقيقة ابنته التي هربت بعمر 11 سنة من أحد الأديرة واكتشفها غويا بعد أيام في منتزه مدريد الرئيسي الذي تتجول فيه داعرات المدينة.لم يترك غويا ملاكه إنيسا، زارها في المستشفى واشتراها من مديرها الجشع، وأخبرها أنه عثر على ابنتها، لكن لورينسو سبقه إليها وأودعها مع فتيات أخريات في عربات التهجير إلى أميركا. سيعترض غويا على إجراء لورينسو وكيفية سوق الإسبانيات كعبيد للأميركان، لكن القافلة ستقع في الطريق بيد القوات البريطانية التي كانت تزحف إلى مدريد لتشاهد البنت إليسا التي فقدت ابنتها هي الأخرى في عملية الاعتقال من فوق شرفة مع ضابط بريطاني تشاهد إعدام أبيها الذي لا تعرفه، لكن إنيسا ستأخذ الرضيعة من تحت طاولة الحانة لتهتف بلورينسو أن يرى ابنتهما، يحدق بها قبل شنقه ويبتسم لها.

أهداف فورمان ـ كارير
ساعد التصميم الصحيح لليزلي تشاتز على إظهار الفيلم بالعمق المطلوب، وتابع مهندس الصوت عمله بالدقة نفسها، فكانت أبواب الكنيسة تفتح وتغلق على الطرق الواسعة وأصوات الأجراس البعيدة وصوت الأكتاف وحفيف الأقدام وشغل خافيار أغيرساربو في إدارة التصوير حسن جدا وخاصة تركيبه الألوان والتظليل ومراقبة تمثيل العيون والصور المقربة التي كانت تطمس صعوبات الديكور।أما السيناريو فثمة شك في أن فورمان والكاتب الأسطوري للسيناريو جين كلود كارير افتقرا إلى رواية القصة على الشاشة، فثمة وهن في بعض المشاهد وخاصة استدعاء لورينسو لابنته إلى عربته كمومس ومفاتحتها مباشرة في الشارع العام بأمر تهجيرها إلى أمريكا وإفلاتها منه بكل بساطة بعد أن تدارك فضيحة مع مومس في شارع عام وهي لا تعرف بأن الشخص الذي هربت منه يكون والدها. ولكن فورمان وكارير ظفرا بهدفيهما حينما تحركت الكاميرا في مشاهد كثيرة أخرى كانوا واثقين فيه بالتوازن بين الحاجة للتوثيق واعتبار غويا شاهدا على التاريخ والالتزام بالحس الدرامي ـ الفني.غير أن النقد المتبصر لا تفلت منه عملية النفخ الميلودرامي بحوادث مبنية على الصدف التي تلد صدفها. ويحدث تعاقب الأحداث الهرمي على المصادفات الكثيرة وحدها، أما الخيوط الأخرى التي كانت مهمتها تشبيكها، فقد ظلت عالقة في شريط مليء بالميلودراما وأناس يعيشون حياتهم ضد خلفية التاريخ والرياح والمصير.

إرغام السيناريو
ولم يعان أيا من كاتبي السيناريو على الأرجح أن تكون القصة عن غويا لاستكشاف حياة الفنان أو أن يضعوه مراقبا تاريخيا لما حصل في زمانه، وفضلا الخيار الثاني رغم أنهم وضعوا اسم غويا في عنوان الفيلم، ولا نرى بأن الأمر أضر بغويا أو الفيلم।كما أنهما حشرا الكثير من المواضيع البالغة التعقيد فلسفيا وتاريخيا في شريط واحد ربما لا يتحمل محاكمة: الكاثوليكية، تاريخ إسبانيا، لوحات غويا، تاريخ الكنيسة والحروب الكثيرة والغزوات التي حدثت في نهاية القرن الثامن عشر. فهناك دائما المحور القصصي الذي يلتصق بالشريط، لكن هذا اللاصق غاب بشكل مؤلم في 'أشباح غويا'.إن إرغام السيناريو على حشد كل هذه الموضوعات الكبرى في فيلم واحد كتحفة محيرة تتطلب المشاكل الفلسفية التي طرحها الاستعانة بأفلاطون ومن الجانب الآخر وجود مرغم آخر وهو مشاهد حسن الثقافة، حزين وممتلئ الإحساس بالمعرفة وهو مشاهد نادر في عالمنا.هذا الأمر ليس بالشيء السيىء، لكنه سيف ذو حدين، ولأجل ذلك صرف ميلوس فورمان بمساعدة منتج متعاون فائز بالأوسكار منذ مدة طويلة (ساول زانيتز) أشرف على التصوير من 5 سبتمبر حتى السابع من ديسمبر 2005 في المدن الإسبانية: مدريد، سالامنكا، تيليدو وغونيسا، مبددا الكثير من الأموال ليعيد إنشاء إسبانيا نهاية القرن الثامن عشر مستخدما المجاميع البشرية الهائلة.من ناحية أخرى ليس ل 'أشباح غويا' غرض واضح ولا رسالة بعينها ولا شخصية مركزية يعول عليها لحمل الشريط (تقريبا لم تتعلق القصة بغويا شخصيا وبدا الشبح الأكبر في الفيلم هو غويا نفسه) واعتمد على عنف الماضي والغزو النابليوني المشؤوم لإسبانيا عام 1807 عندما اعتقد الفرنسيون بأن الزهور ستلقى أمامهم في الطرقات بعد عتقهم من الحكم الملكي الفاسد والكنيسة المستبدة.وعلى الرغم من أن الفيلم كله يدور في إسبانيا وعنها، إلا أننا نشاهد ممثلا إسبانيا واحدا فحسب، والذين لعبوا الأدوار الرئيسية: أميركي وإنكليزي وسويدي. وهذه واحدة من المشاكل التي يعانيها الوضع السينمائي في العالم، فالكلام بالإنكليزية (وإن كان مزيجا عشوائيا لمختلف اللهجات) يضمن للمنتجين بيعه في أي مكان، لكون الإنكليزية أصبحت لغة الأعمال والجريمة والجنس والحروب.

الأسئلة الراهنة
يطرح الفيلم بعض الأسئلة الجانبية، ولعلها كذلك إن لم تكن الرئيسية: هل كان فورمان يلمح بالشجب لأعمال الغرب الذي رفع لواء الحرب على الإرهاب بتذكيرهم بالإرهاب والاضطهاد الديني الذي كانت الكنيسة تمارسه ضد الأناس الذين اعترضوا عجلتها الوحشية؟ إن المحاضرة التي ألقاها لورينسو بعد دخول جيوش نابليون إلى مدريد تظهر كخطاب سياسي ألقاه جورج بوش بعد دخول القوات الأميركية إلى بغداد وهو تدخل مبهم أولجه فورمان بشكل تقريري।

الخاتمة
ستبقى خاتمة هذا الفيلم واحدة من أروع صور السينما ولوحة باهرة اجتمع فيها كل عمق هذا الفن والموهبة العظيمة لفورمان.لم يعتذر لورينسو للكنيسة وفضل الموت على ذلك، لكن ابتسامته على منصة الإعدام لمصدر صوت إنيسا كانت بمنزلة إعلان توبة أمام قلبه والفظائع التي اقترفها بحقها.وإنيسا الوحيدة التي رافقت جثته التي سحبتها عربة بحمارين وكان رأس لورينسو يتدلى من العربة ليبصر في لحظاته الأخيرة مدريد بالمقلوب مع موسيقى مشكلة من غناء أطفال على الرغم من كل ما فعله معها وغويا خلفهما. وكأن المعادلة الرهيبة العمق تسير وفق الهارمونيا التالية : تسير نحو وفائها ممثلة الحياة ويلحقها غويا متشبثا بالحياة برمزها الأثيري والاثنان يمشيان في جنازة الحياة نفسها، برذائلها وقسوتها ووحشيتها وندوبها ووفاء الملائكة الذين انصهروا جميعا في اللوحة الفائقة الجمال التي التقطها غويا لأشباحه.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق