الثلاثاء، 30 يونيو 2009

أموات بغداد: ما هو أصعب من الخيال في أسلوب أدبي علمي

د. نورة ناصر المليفي
أموات بغداد رواية جديدة للروائي والصحافي د. جمال حسين علي، وهي صادرة عن دار الفارابي ـ بيروت، تقع في خمسمائة صفحة من الحجم المتوسط. سبقت هذه الرواية ثلاث روايات: صيف في الجنوب – الفنارات– التوأم، وثلاث مجموعات قصصية : ظل متبخر- الضريح الحي – والتويجات. أموات بغداد رواية تحكي واقع الشعب العراقي بكل دقة وبكل صدق، هذا الصدق أعطى الرواية قوة في التأثير، وتفاعلا مع الأحداث فكل ما في الرواية هو واقع لامحالة، حتى وإن أنكره العقل، ورفضته الكرامة الإنسانية، لتصبح هذه الرواية أصعب من الخيال.
بدأ الكاتب روايته من النهاية، حيث يدخل بطل الرواية العراق عن طريق التهريب من موسكو، بعد غياب أكثر من خمسة وعشرين عاما، ويجد نفسه محاطا بأوضاع غريبة لايصدقها العقل، فبغداد التي تركها خمسة وعشرين عاما لم تعد سوى مدينة أشباح وقتل وأموات.
يبدأ بعد ذلك بسرد التفاصيل وكيف خرج من بغداد ثم استقراره بموسكو، وتفرغه للأبحاث والإنجازات العلمية التي أشهرته، وصار عالما من علماء الفيزياء والكيمياء، ولم يغفل المؤلف الجانب العاطفي للبطل، ومن ثم هروبه من موسكو ودخوله المحطة الأخيرة ألا وهي بغداد، التي عمل فيها مراسلا ومشرحا للأموات. إنها رحلة من العذاب، والمغامرات الإنسانية والبحوث العلمية والنزعة الفطرية لرفض الظلم والقهر، والمناداة لعالم السلم والسلام والحب والأمان.
الرسالة التي تبكي الحجر
احتوت الرواية على رسالة كتبها والد البطل، إنها رسالة تحكي الواقعَين الاجتماعي والسياسي في العراق.. رسالة تبكي الحجر، لأن كل ما كتب فيها يحكي قصة ملايين البيوت في العراق، عندما تلد الأمهات وهن يدركن أنهن يهبن أولادهن للموت، وأن الكلاب تنعم وتعيش ويموت الشرفاء المكافحون الزاهدون، إنها مأساة نظام فاسد راحت ضحيته عقول مضيئة، وأيادٍ بيضاء ناصعة، إنه عالم لايعيش فيه سوى الجبابرة والطغاة، الغازين الناهبين لكل الثروات.
يتسلم البطل رسالته في العراق، فبعد دخوله وطنه بعد هذا الغياب اتجه أولا لمنزل ذويه ظنا منه بأنه سوف يلقى الأحبة، لكن الصدمة كانت كبيرة عليه، لم يبق من الأحبة واحد منهم، ولم تبق. الحرب سوى الأشباح، لقد أخبره ساكن المنزل الغريب أن والده قد باع المنزل، وأرسل إلى ابنه المهاجر رسالة لكنها لم تصله، فعادت الرسالة واحتفظوا بها، وجاء الوقت ليتسلمها بنفسه، فتح البطل الرسالة الكئيبة وأخذ يقرأها: «قد تغفر لي فالأبناء يسامحون الآباء أيضا، عدم استطاعتي الخروج بعائلتنا إلى السلام. لأنك في هذه اللحظات التي ستقرأ الرسالة ستكون أنت آخر شخص بقي فيها، ويتعذر علي وأجد صعوبة فائقة في تدبر عبارات تبين لك أن أخوتك الثلاثة راحوا منا، كل في ظرف معقد وغريب وغير معلوم، كانوا يخرجون من البيت ولا يعودون، هذا ما عرفناه، وبعد كل حادثة اختفاء، كان الأمن يأتي إلى بيتنا يقلبون حاجياتنا على رؤوسنا، وحين لا يعثرون على شيء يغادروننا بالسباب والوعيد..».وتابع قراءة الرسالة الطويلة، وتابع وتابع وتابع !!
من هنا يبدأ المشوار
فما كان من البطل إلا أن يبدأ رحلة البحث عن أشقائه المفقودين لقد عمل مراسلا مع الجيش الأميركي، وكما عمل دفّانا للموتى ومشرحا للجثث، وباحثا عن المفقودين يشرّح جثثهم لمعرفة أسباب موتهم، والكشف عن هويتهم، لقد عاش مع الموتى وقد صقلته هذه التجربة إبداعا وعطاء حقيقيا، وإذا كان البطل شاعرا وإنسانا وعالما فإن العيش مع الأموات هذّب من مشاعره، ليخرج إلى الدنيا زاهدا قانعا بحياته وبقدره، ضاحكا على هؤلاء البشر الذين يتكالبون على الدنيا وفي النهاية مصيرهم حفرة حقيرة، لايغفر لهم سوى عملهم إن كان لديهم عمل يتباهون به.. إنها زركشات خارجية وصور لامعة والحقيقة أصعب ما يكون عندما يكتشف الآخرون أن من يحملون هذه المظاهر الخادعة لايحملون معهم سوى الصفر المدفون بداخلهم.
عندما اقترب الموعد الذي حدده له والده في المقبرة لزيارة أمه استعد للقاء، وياليته لم يفعل، لأن الصدمة كانت أشد وطأة هذه المرّة عندما يعقد الإنسان الأمل على لقاء الأحبة، وينتظر هذه اللحظة أمدا وتحين اللحظة ليكتشف أن الأحبة لن يعودوا أبدا، وأن الفراق هو المصير لا محالة. هناك عند قبر والدته لم يجد والده، وهذا يعني أنه قد مات، وأنه لم يبق له أحد في العراق بعد عودته من موسكو سوى الذكريات، لكن الحرب كانت عنيفة، لم ترحم حتى ذكرياته، العراق لم يعد كما كان، إنه الخراب والدمار في كل شارع وكل بيت، ارتدى دجلة والفرات وشاح السواد، وعم الحزن المدينة، ولا حياة في الطرقات، إنها قوانين صارمة، منع التجول، ملاحقة المشبوهين، مصادرة الأسلحة، كل شيء ممنوع حتى الهواء النقي بات محرما في هذي البلاد، صراع وتحدٍّ وانشقاق، ولا شيء يساعد على تذكر الأيام الجميلة التي عاشها قبل الهجرة، ما أصعب أن يعيش المرء من دون ذكريات، عندما تسلب منه عنوة، حتما ستصير الأيام كلها عنده سيّان. وبعد البحث والتحري عن أشقائه اكتشف البطل أنه يجري خلف سراب، وأن الواقع يقول إن هناك الآلاف من المفقودين كحال أشقائه ولا حياة لمن تنادي، لقد ماتوا وماتت الأسرار معهم ، مات كل واحد منهم بطريقة وبجريمة وبتهمة، حتى وإن لم يكن مجرما، المهم أن الموت هو لغة الحوار في أرض العراق.
الأدبي والعلمي معا
استخدم الكاتب الأسلوب الأدبي بصوره الخيالية وتعبيراته الفنية لتشعر أنك تقرأ رواية لأديب عشق الأدب، وامتهن منه صنعة جيدة لايجيدها الآخرون، ولم تتخيل أبدا أن هذا الكاتب والروائي عالم من علماء الفيزياء والعلوم، إلا أنه في حين آخر تشعر بأنك تقرأ معلومات علمية في علم الأحياء والفيزياء والكيمياء، تدرك عندها أن هذا الكاتب جمع ما بين علم العلوم وعلم الأدب واللغة، فما كان منه إلا أن يستخدم الأسلوب العلمي حينا آخر عندما تأتي الضرورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق