الثلاثاء، 30 يونيو 2009

أموات بغداد: ما هو أصعب من الخيال في أسلوب أدبي علمي

د. نورة ناصر المليفي
أموات بغداد رواية جديدة للروائي والصحافي د. جمال حسين علي، وهي صادرة عن دار الفارابي ـ بيروت، تقع في خمسمائة صفحة من الحجم المتوسط. سبقت هذه الرواية ثلاث روايات: صيف في الجنوب – الفنارات– التوأم، وثلاث مجموعات قصصية : ظل متبخر- الضريح الحي – والتويجات. أموات بغداد رواية تحكي واقع الشعب العراقي بكل دقة وبكل صدق، هذا الصدق أعطى الرواية قوة في التأثير، وتفاعلا مع الأحداث فكل ما في الرواية هو واقع لامحالة، حتى وإن أنكره العقل، ورفضته الكرامة الإنسانية، لتصبح هذه الرواية أصعب من الخيال.
بدأ الكاتب روايته من النهاية، حيث يدخل بطل الرواية العراق عن طريق التهريب من موسكو، بعد غياب أكثر من خمسة وعشرين عاما، ويجد نفسه محاطا بأوضاع غريبة لايصدقها العقل، فبغداد التي تركها خمسة وعشرين عاما لم تعد سوى مدينة أشباح وقتل وأموات.
يبدأ بعد ذلك بسرد التفاصيل وكيف خرج من بغداد ثم استقراره بموسكو، وتفرغه للأبحاث والإنجازات العلمية التي أشهرته، وصار عالما من علماء الفيزياء والكيمياء، ولم يغفل المؤلف الجانب العاطفي للبطل، ومن ثم هروبه من موسكو ودخوله المحطة الأخيرة ألا وهي بغداد، التي عمل فيها مراسلا ومشرحا للأموات. إنها رحلة من العذاب، والمغامرات الإنسانية والبحوث العلمية والنزعة الفطرية لرفض الظلم والقهر، والمناداة لعالم السلم والسلام والحب والأمان.
الرسالة التي تبكي الحجر
احتوت الرواية على رسالة كتبها والد البطل، إنها رسالة تحكي الواقعَين الاجتماعي والسياسي في العراق.. رسالة تبكي الحجر، لأن كل ما كتب فيها يحكي قصة ملايين البيوت في العراق، عندما تلد الأمهات وهن يدركن أنهن يهبن أولادهن للموت، وأن الكلاب تنعم وتعيش ويموت الشرفاء المكافحون الزاهدون، إنها مأساة نظام فاسد راحت ضحيته عقول مضيئة، وأيادٍ بيضاء ناصعة، إنه عالم لايعيش فيه سوى الجبابرة والطغاة، الغازين الناهبين لكل الثروات.
يتسلم البطل رسالته في العراق، فبعد دخوله وطنه بعد هذا الغياب اتجه أولا لمنزل ذويه ظنا منه بأنه سوف يلقى الأحبة، لكن الصدمة كانت كبيرة عليه، لم يبق من الأحبة واحد منهم، ولم تبق. الحرب سوى الأشباح، لقد أخبره ساكن المنزل الغريب أن والده قد باع المنزل، وأرسل إلى ابنه المهاجر رسالة لكنها لم تصله، فعادت الرسالة واحتفظوا بها، وجاء الوقت ليتسلمها بنفسه، فتح البطل الرسالة الكئيبة وأخذ يقرأها: «قد تغفر لي فالأبناء يسامحون الآباء أيضا، عدم استطاعتي الخروج بعائلتنا إلى السلام. لأنك في هذه اللحظات التي ستقرأ الرسالة ستكون أنت آخر شخص بقي فيها، ويتعذر علي وأجد صعوبة فائقة في تدبر عبارات تبين لك أن أخوتك الثلاثة راحوا منا، كل في ظرف معقد وغريب وغير معلوم، كانوا يخرجون من البيت ولا يعودون، هذا ما عرفناه، وبعد كل حادثة اختفاء، كان الأمن يأتي إلى بيتنا يقلبون حاجياتنا على رؤوسنا، وحين لا يعثرون على شيء يغادروننا بالسباب والوعيد..».وتابع قراءة الرسالة الطويلة، وتابع وتابع وتابع !!
من هنا يبدأ المشوار
فما كان من البطل إلا أن يبدأ رحلة البحث عن أشقائه المفقودين لقد عمل مراسلا مع الجيش الأميركي، وكما عمل دفّانا للموتى ومشرحا للجثث، وباحثا عن المفقودين يشرّح جثثهم لمعرفة أسباب موتهم، والكشف عن هويتهم، لقد عاش مع الموتى وقد صقلته هذه التجربة إبداعا وعطاء حقيقيا، وإذا كان البطل شاعرا وإنسانا وعالما فإن العيش مع الأموات هذّب من مشاعره، ليخرج إلى الدنيا زاهدا قانعا بحياته وبقدره، ضاحكا على هؤلاء البشر الذين يتكالبون على الدنيا وفي النهاية مصيرهم حفرة حقيرة، لايغفر لهم سوى عملهم إن كان لديهم عمل يتباهون به.. إنها زركشات خارجية وصور لامعة والحقيقة أصعب ما يكون عندما يكتشف الآخرون أن من يحملون هذه المظاهر الخادعة لايحملون معهم سوى الصفر المدفون بداخلهم.
عندما اقترب الموعد الذي حدده له والده في المقبرة لزيارة أمه استعد للقاء، وياليته لم يفعل، لأن الصدمة كانت أشد وطأة هذه المرّة عندما يعقد الإنسان الأمل على لقاء الأحبة، وينتظر هذه اللحظة أمدا وتحين اللحظة ليكتشف أن الأحبة لن يعودوا أبدا، وأن الفراق هو المصير لا محالة. هناك عند قبر والدته لم يجد والده، وهذا يعني أنه قد مات، وأنه لم يبق له أحد في العراق بعد عودته من موسكو سوى الذكريات، لكن الحرب كانت عنيفة، لم ترحم حتى ذكرياته، العراق لم يعد كما كان، إنه الخراب والدمار في كل شارع وكل بيت، ارتدى دجلة والفرات وشاح السواد، وعم الحزن المدينة، ولا حياة في الطرقات، إنها قوانين صارمة، منع التجول، ملاحقة المشبوهين، مصادرة الأسلحة، كل شيء ممنوع حتى الهواء النقي بات محرما في هذي البلاد، صراع وتحدٍّ وانشقاق، ولا شيء يساعد على تذكر الأيام الجميلة التي عاشها قبل الهجرة، ما أصعب أن يعيش المرء من دون ذكريات، عندما تسلب منه عنوة، حتما ستصير الأيام كلها عنده سيّان. وبعد البحث والتحري عن أشقائه اكتشف البطل أنه يجري خلف سراب، وأن الواقع يقول إن هناك الآلاف من المفقودين كحال أشقائه ولا حياة لمن تنادي، لقد ماتوا وماتت الأسرار معهم ، مات كل واحد منهم بطريقة وبجريمة وبتهمة، حتى وإن لم يكن مجرما، المهم أن الموت هو لغة الحوار في أرض العراق.
الأدبي والعلمي معا
استخدم الكاتب الأسلوب الأدبي بصوره الخيالية وتعبيراته الفنية لتشعر أنك تقرأ رواية لأديب عشق الأدب، وامتهن منه صنعة جيدة لايجيدها الآخرون، ولم تتخيل أبدا أن هذا الكاتب والروائي عالم من علماء الفيزياء والعلوم، إلا أنه في حين آخر تشعر بأنك تقرأ معلومات علمية في علم الأحياء والفيزياء والكيمياء، تدرك عندها أن هذا الكاتب جمع ما بين علم العلوم وعلم الأدب واللغة، فما كان منه إلا أن يستخدم الأسلوب العلمي حينا آخر عندما تأتي الضرورة.

في بيت الزايد.. العراقي جمال حسين الحاصل على جائزة الصحافة العربية

جريدة "الوسط" البحرينية

جمال حسين علي في حوار خاص مع جريدة "الوقت"

جريدة "الوقت" - المنامة - علي الديري :
يقدم جمال حسين الصحافي العراقي اليوم في بيت الزايد للتراث الصحفي محاضرة يستعرض فيها تجربته الصحفية في تغطية حروب الثلاثين سنة الأخيرة والتي توجها عام 2004بفوزه بجائزة الصحافة العربية في مجال الريبورتاج الصحفي.حاصل على دكتوراه في الفيزياء والرياضيات من جامعة موسكو ودكتوراه في الإعلام والعلاقات الدولية من معهد العلاقات الدولية في موسكو.صدر له مجموعة من الروايات منها "صيف في الجنوب"،" الفنارات"، "التوأم" وفي الريبورتاج الصحفي سيصدر له قريبا مجموعة من الكتب منها: "افتتاح ثقب الإبرة" عن تجربته في تغطية حرب أفغانستان و"نهوض الجحيم" عن عن تجربته في تغطية حرب الشيشان ،"مذبح الأزهار" عن تجربته في تغطية حرب كردستان ،"شبابيك الأئمة" عن تجربته في تغطية حرب العراق،"عنفوان المجرة" عن تجربته في الأهوار.خلاصة تجربته تقول: إن الحروب تشكل خارطة المدن والمراسل الحربي يشكل خارطة الحقيقة، في هذا الحوار يتحدَّث جمال حسين عن تجربته في تشكيل خرائط حقائق المدن الساخنة.كتبت ما يقارب الألف ريبورتاج ولا يمكنك العثور فيها على اثنين متشابهين في الموضوع أو اللغة أو الصورةالصحافة هي ريبورتاجخضت حروب ربع القرن الأخير كلهاما رأيته وعشته، جعلني أنسى حتى عدد المرات التي مت فيها وحييتمهما كانت متانة الخطط التي توضع قبل الوصول إلى النقاط الساخنة فإن تسعة أعشار أكثر الريبورتاجات لمعاناً وتألقاً تصنعها المفاجآت بمسراتها وأوجاعها لا التخطيطات.لا أحب زيارة المدن المستقرة فهي تبدو لي أكثر ضجراً بهدوئهاالذين يروون الحقيقة كما يرونها ( في النقاط الساخنة) نادرين في هذه المهنة!السيرة الصحفية
- كيف تشكلت سيرتك الصحافية؟^ تجاوزت الثلاثين عاماً منذ الريبورتاج الأول المنشور في العام 1974 في وقت كان فيه نشاطي القصصي والروائي في مطلعه متشابكاً مع الاهتمام العلمي المدرسي والجامعي ومن ثم في مجال الدراسات العليا المتخصصة. في غضون ذلك لم تمهلني الصحافة ولم أتخل عنها لدوافع أساسها قربها للأدب، وبامتزاج الاندفاع الأدبي بالعلمي تشكلت الصورة العامة للسيرة الصحافية التي سألت عنها، والتي استقرت في هيئة مراسل الحرب الذي خاض فيها كل حروب ربع القرن الأخير، كلها تقريباً بدءاً من الحرب العراقية – الإيرانية مروراً بحروب الجمهوريات السوفيتية فيما بينها والشيشان وأفغانستان والبوسنة وكردستان ودارفور والعراق وأخيراً لبنان.- تبدو سيرتك هذه تشكيلة من علوم مختلفة وتجارب مختلفة ولغات مختلفة ومجالات مختلفة وجغرافيات متنوعة. كيف أغنت هذه التشكيلة خبرتك الصحافية؟^الخبرة الصحافية يقويها ويؤسسها العمل الجاد والفعال والمثمر بالنجاح، وبدون النجاح ستتقهقر الخبرة ويذبل القلم معها وتنتكس الهمة ويهوي الصحافي عندها عند قاع التقليدية وروتين العمل اليومي.إن أول شيء انتصرت عليه في التوثب الصحافي، محاولتي حرق المألوف والدارج والمتوقع، وهذا لا يتيسر في عمل المراكز الصحافية وخلف المكاتب، أنه متاح في الميدان فقط، ومنه، وبمثابرة غير طبيعية وبجهد استثنائي وسوبر حرفية يمكن الخروج بتقارير لا تضاهى ولا تتكرر.وحول هذا الموضوع، لم أكتب مطلقاً، لعلي لا أستطيع إحصاء الريبورتاجات الآن وهي ليست أقل من ألف ريبورتاج بالتأكيد؛ لا يمكنك العثور على اثنين متشابهين في الموضوع واللغة والصورة، أكثر من ألف ريبورتاج كل مختلف عن الآخر، بالمعالجة وطريقة الطرح والسرد والتكنيك واللغة، إنها حالة المغرم بتغيير أزيائه باستمرار ولا يعود أبداً إليها بعد ارتدائها، أسمي هذا الابتكار المستمر ومنه أطمح في التأثير على المهنة، لا العكس، وحين نؤثر في أي مهنة ندفعها إلى الأمام، نقوي عودها ونجملها بالأحسن والأحدث وبذلك فقط تتطور الحياة.غربة الريبورتاج- يبدو التحقيق الصحافي (الريبورتاج) جنساً لم يتوفر على خبرات معمقة في الصحافة العربية. من تجربتك المميزة في هذا الجنس الصحافي، كيف تفسِّر هذا الأمر؟- الصحافة هي ريبورتاج وليس مقالات رأي وأخبار تختلف في تصنيفها الوكالات، هي ريبورتاج الجريدة الخاص، هذه مهمة الصحافة الرئيسية وعدا ذلك فالأمور تصفف يومياً بابتذال وتقدم إلى القارئ.أما بخصوص عدم توفر الخبرات المعمقة في صحافتنا، ذلك لأن الريبورتاج أصعب فن في الصحافة ولا يهدى النجاح فيه إلا بعمل دؤوب متكامل، فيه الصورة عنصر يدفع المعلومة، والأسلوب يتناغم مع الموضوع، على كاتب الريبورتاج التمييز حين يكتب عن ليل مدينة وحرائقها، وحينما يكتب عن الحب ليس بنفس لغة الحديث عن الأنهار، وما أن يجبر على وصف الموت، فلديه مهمة أخرى تختلف عن نيته حين يقرر الكتابة عن الجمال، ورسائل الميدان تختلف بنمطها عن سواها، فالمعارك لها لغتها لا تتواءم حين تزيحك اللغة وأنت تراقب نزوح مئات الآلاف من جبهات القتال، وعندما تبحث كأي أنثروبولوجي في أسرار المدن والناس والتاريخ، فلذلك لغة أخرى وأسلوب يتغير برمته ما أن يجرك الحديث عن خدع الدنيا وآلامها وحتى طرائفها.ليس لدينا كتَّاب ريبورتاجات من الطراز الأول، ولا يوجد لدينا مطلقاً مراسلو حرب متخصصون، إن مراسل الحرب وحده حالة فريدة في الصحافة، له مميزات خارقة عن العادة، لا يوجد الآن متسع لتفريغ محتوى هذه العبارة البالغة التعقيد.
جائزة الصحافة العربية- فوزك بجائزة الصحافة العربية2004 في فئة التحقيقات الصحافية. ماذا يعني لتجربتك؟ وهل لفت الانتباه إلى أهمية هذا الجنس الصحافي؟^ كان الفوز تتويجاً لثلاثين سنة من التخصص في الريبورتاج لا سيما الحربي، وهو علامة جودة كما يحلو لأهل البيزنيس تسمية منتجاتهم، وللأسف هو تتويج شخصي وليس عاماً يشمل الجنس الصحافي كما أسميته. فالقائمون على الصحافة عندنا وأقصد الممولين وأصحاب الصحف وأحياناً من يديرها، لا يهمهم جداً ما يشغلنا نحن الواقعين في فرن الصحافة ومطبخها، إنهم يقيسون الأمور قدر ما تدر عليهم من مكاسب مادية ومعنوية ومنزلة وسلطة، ولو حققت هذه الأمور أمور ومواد بعيدة عن المهنة ومبتذلة لا يتوانون عن تشجيعها، لذلك فإن الصحافة ويا للغرابة، أكثر مهنة في التاريخ دخل فيها المتطفلون، عشرات الآلاف من الصحافيين لا يجيدون تحرير نص مقبول، فكيف يستطيعون خلق ريبورتاج أصيل بصوره وقضيته الجديدة ومعلوماته الدقيقة وشموليته وخلفياته وآفاقه والحلول التي يقدمها؟ إن الصحافة تعاني كثيراً لأن أهل بيتها ليسوا صحافيين متمرسين، وهي في أغلب الأحوال قص ولزق وتركيب. عليك أن تنظر لآلاف الصفحات التي تصدر يومياً في منطقتنا، قلبها فقط، هل ستظفر بعمل خلاق؟!- تجربتك في تغطية الحرب في الشيشان وأفغانستان والبوسنة وكردستان والعراق وغيرها، كيف تروي كل تجربة منها؟^ لا أستطيع روايتها، ولا أريد. لأن ما رأيته وعشته، جعلني أنسى حتى عدد المرات التي مت فيها وحييت، أقدر الخروج بدروس، لكن روايتها بالغة الصعوبة، هناك كل يوم تتعلم درساً جديداً، لقد تغيرت الصحافة كما تغيرت تكنولوجيا وأساليب الحروب، والتوقف عند الخبرات المتعارف عليها سيلقي بك في مهب الريح، هناك لا ينبغي كتابة تقارير عادية لأن الحرب غير عادية، والصحافي عليه التغلب والانتصار على الحرب نفسها لكي ينتصر.- بم يتسلح مراسل الحرب؟^بشدة المراس والتصميم وقابلية تنقية الخير من الشر، معرفة الشر ومعارضته أياً كان مصدره وأي دبلوماسية في هذا الأمر ستشطر المراسل إلى نصفين، واحد للأخلاقيات وآخر للإعلان. لا يكل ولا يمل، دؤوب، قادر على العمل لساعات طويلة، يصبر على الشدائد والمعوقات والوقت المهدور دون إرادته، متحفز ونبيه وفضولي، نادر يتفوق على حب الاستطلاع الإنساني التقليدي، مؤمن بنجاحه ويسير نحوه بثبات وهدوء ومثابرة.- وسلوكه؟^ على سلوك المراسل في المدن التي ينبغي عليه دخولها للمرة الأولى، أن يكون بلا أخطاء اجتماعية بالدرجة الأولى، وعليه تصنيف عادات وتقاليد الناس بكل تفاصيلها الصغيرة، ما أن يقرر دخول هذه المدينة أو تلك. وليس أقل من التواضع والرجاء ومنطقية الخطط اليومية بعيداً عن فظاظة القلب واللسان، وعدم التحرج أبداً من الاستعانة بأهم طرف في التغطية.- من تقصد؟^ المساعدون المحليون. حين تدخل مدن مدمرة أو تنتظر الحرب لا بدَّ أن تستعين بأحد ما من أهلها، وينبغي على المراسل أن يكون مخلصاً في تعامله، مع من سيكون قريباً منه أو ثمة احتمال لقربه منه، في لحظة ما طوال فترة إقامته في المدينة الغريبة، حتى لو تطلب الأمر حضور دفن لشخص لا تعرفه أو زفاف طارئ، فهناك ستسمع ما لا يمكن توقعه بلغة مفاجئة ستفتح لك المزيد من السبل ومجاري المدن الغامضة. فالصداقات التي تبنى في المناطق الساخنة لا ينبغي أن تؤسس على المصالح المهنية، فالناس هناك مغدورون جداً وليسوا بحاجة إلى غدر جديد، ولديهم حساسية غريزية لتمييز الصحافي البراغماتي عن الإنسان الذي يحاول تبني أزماتهم بإخلاص. وقد يمضي الوقت ولم تحقق صداقات، لكن علاقة قد تستعرض نفسها لدقائق بشكل إنساني، كافية للغاية لإطلاق مشروع صحافي باهر.
أسرار المدن
- كيف تقرأ أسرار المدن؟^ لا ينبغي الكتابة عن المدن لا سيما الساخنة بناء على ولعنا بها أو احتقارنا لها، بل فيما يستحق منها تقديمه إلى الزمن وذكريات المستقبل وعبرة الأجيال.- ألا تضع خططاً قبل شروعك بتنفيذ ريبورتاج ما؟^مهما كانت متانة الخطط التي توضع قبل الوصول إلى النقاط الساخنة، فإن تسعة أعشار الريبورتاجات لمعاناً وتألقاً ستقدمها المفاجآت والصدف بمسراتها وأوجاعها وقابلية التقاطها والخوض فيها حتى النهاية. فلا صدف تأتي لشخص يجلس وينتظر حدوثها بطبيعة الحال، وحتى الصدف المعقولة والساحرة تهدى فقط للراكبين زوارق المقامرة ومن يراهنون على القضايا الخاسرة. ولا يجوز الانتظار حتى يأزف الاختيار، ومعرفة المطلوب فهمه.- متى يزداد الغموض على المراسل؟^يزداد غموض المراسل الغريب كلما حاول معرفة ما الذي يفعله الناس في المدن التي تحترق وكيف يعيشون، ولماذا يحصل أمامه كل ما يحصل، وإن كانت أفكاره راسخة وفق الطبيعة العامة لمنطق الأمور فإن بعض الأماكن التي تجري فيها الأحداث بعيداً عن أي منطق تفرس فيه، ستداهمه بالكثير من الاعتقادات الوهمية والصدمات التي ستشل عمله. عليك أن تجر الناس بسلاسة وإدراك منهم لأهمية عملك ولا سيما البسطاء، لا أن توقعهم في الشرك كما تفعل مع الساسة المحترفين وأمراء الحروب.إن مراسل الحرب جهاز إنذار مبكر للإعلان عن المذابح والفضائح التي تسويقها وكالات التنميق والعجز والدعاية وتضيعها دخان الحروب البعيدة بمزيد من التقارير المخزية.
اختراع قصص الحرب- ثمة الكثير من التقارير تصل من جبهات الحروب ليس لها مصداقية أو يثبت الزمن فيما بعد فبركتها..^ التلفيق والزيف والتمثيل ورواية قصص خيالية لم تقع وغيرها من أساليب عادة ما يلجأ إلى افتعالها مراسلو النقاط الساخنة بدرجة قد تصل إلى نسبة لا يستهان بها، وذلك يعود إلى طبيعة المهنة من وجهة النظر الإدارية وحمى المركز الذي يطلب عادة من مراسليه مواد يومية في كل الأحوال.- عملت كثيراً ورأيت مراسلي وسائل الإعلام الغربية، كيف تقيم تجربتهم؟^ بسبب أن كل الحروب الأخيرة شنتها دول الناتو بقيادة الولايات المتحدة، لذلك فإن الصحافيين الغربيين كانوا المقدمين على الآخرين بشكل عنصري وليس مهني، ونظراً لعلاقات قديمة واستراتيجية بين دوائرهم والمؤسسة العسكرية التي تشن هذه الحرب وتلك. ولكن إن كان هذا أمراً منطقياً وميسوراً فهمه، فلمَ كان هؤلاء الصحافيون المدللون بعيدين عن الروح، ونقصد بها روح المنافسة الشريفة؟ ولمَ عليهم التجرد من الخصال الإنسانية البناءة والتعالي على الآخرين لكونهم يملكون تصريحاً أغلظ من الآخرين؟ ولماذا لم يحاول أي منهم حتى كبت غرائزه في التنافس المهني والزيف وتضخيم الذات حتى في رسائلهم الصحافية المتورطة بالكثير من وجهات النظر المقررة عن بعد؟
أخلاقيات المراسل الحربي
- وماذا عن الأخلاقيات، حين يضطر المراسل العمل في مكان خال منها؟^ سيعتقد المراسل في المناطق التي تمارس فيها أعمال بمنتهى القذارة بأن شرفه الخاص يحتم عليه الترفع عنها وانتقادها بلا هوادة. أو في الحالات الأكثر حين يشعر الصحافي بأنه الأكثر نزاهة وأن العالم الآخر وقح ومنافق باعتماده على أساسيات الأخلاق التي يتبناها، وهنا ستصعب مهمته ولن يصل إلى تغطية صحافية فذة اعتماداً على أطره الأخلاقية وليس على ما يتسيد الأرض من آلام وأوساخ، والأهم ما في القضية حتى في جوهرها المهني، أن الصحافي ينبغي عليه أن يترك للقارئ أو المتلقي فرصة التقاط الأنفاس والحكم على النظيف والقذر، الظالم والمظلوم، الجاني والمجني عليه.- هل تأثرت تقاريرك الحربية بما كانت عيناك ترصده من فظاعة؟^ من النادر جداً أن تحظو بتقرير من النقاط الساخنة خال من الانفعالات الخاصة من المراسلين الذين لا يستطيعون في الكثير من الحالات الانفصال عن "حالاتهم" وأبطالهم، ومهما وصلت خبرة الصحافي وشغفه الطاغي في الحقيقة المجردة فما أن يظفر بالصورة المؤثرة، حتى يجد نفسه مغلفاً بمعاناتها الشديدة الوطأة، عليه وعلى النص الذي سينجزه. فما الخيارات أمام المراسل في المناطق التي تتمتع بقدر كاف من اللصوص، المتطرفين، عصابات خطف الصحافيين لأسباب شتى، قطاع الطرق، طلاب الفدية، المشاكسين من عامة الشعب الذين يقررون ما على الصحافي تصويره أو تغطيته، الفضوليون، زحام البشر غير المبرر حول الصحافي .. في بلدان تحاصرها الميليشيات، في بلدان تحدِّد للصحافي طريقه، في بلدان توحي لك السلطات الرسمية أنها تثق بك لكنها تراقب كل خطوة تقوم بها، في بلدان لا تستطيع الوصول إليها لأنك أو مؤسستك الصحافية ممنوعون من دخولها، في بلدان أصدرت بحقك حكم الإعدام، في مدن لا تجيد لغتها، وربما أكون من بين القلائل في التاريخ الصحافي، الذين دخلوا إلى بلد عن طريق تهريب الميليشيات المعارضة، وأعمل في هذا البلد وعليَّ حكم بالإعدام. كيف تتعامل مع الذين يصلبون شخصاً لا بدَّ أن تظهر التعاطف معه وأن هذا عليه أن يصلب؟ وأن تتحول إلى سمسار بشر حين تريد الإطلاع على العرب الذين يباعون في الحاويات وبالجملة والمفرد؟ وكيف تصل إلى تحقيق قضية مسلخ جانغي؟ وكيف تدخل في سجن وموقوف فيه أسرى القاعدة وهذه من أسرار العالم العليا؟ وحين تطرح حقيقة موثقة بالصور والبيانات والوثائق ألا تفسدها الاستنتاجات؟- هل تفخر بكونك صحافياً؟^على الأقل لا أخجل من أنني أردت أن أكون صحافياً وإن بدت لي الصحافة مهنة مبتذلة فالصحافي يكتب للنسيان وإن كانت رغبته الكتابة للذكرى وللزمن.مدن الضجر- هل عملت في مدن هادئة ومستقرة؟^ لكثرة رؤيتي المدن الساخنة كنت اتساءل: ما فائدة زيارة المدن المستقرة؟ فقد بدت لي أكثر ضجراً بهدوئها والإجراءات الطبيعية التي أتعرض لها في مطاراتها، والمدن الآمنة عديمة الحياة، أما المدن الساخنة فمثيرة للأعصاب والموضوعات.- تحدثت في البداية عن النجاح، كيف تراه؟^ في التغطيات الحربية لا يوجد غير مقياسين، إما النجاح التام أو الفشل المنكر، تماماً كما في الحروب التي نغطيها، فيها المهزومون والمندحرون وفيها المنتصرون وهكذا.60 ألف صورة
-وجدتك تهتم بالصورة ..^ التقطت أكثر من 60 ألف صورة في الحروب التي عملت بها، لأني لا أعتقد وجود عنصر أهم من الصورة لنقل ما يجري في النقاط الساخنة، لذلك أعجب من رؤية جحافل من الصحافيين بلا كاميرات! والقلق الدائم لمراسل الحرب على الصورة هو وجه آخر للحفاظ على سمعة النص الذي يرسله من الجبهات بلا تنصيص وشرح ومقابلات وهمية.- من يساعد الصحافي في النقاط الساخنة؟^ هناك لا تنتظر مساعدة من أحد، فنية كانت أم في صلب الموضوع، فالواجب يبلغ أحياناً درجة من الاتساع، لا يتمكن ولا جيش من الصحافيين التقليديين إشباع نزواته. وثمة تقارير مسلية يخلق فيها الصحافيون أبطالهم وحوادثهم الخاصة، لكنها لن تصل مهما كانت حبكتها لجوهر القضية وأصلها وفصلها.ويتطلب في أجواء المعايشة المفروضة مع صحافيين آخرين، كما حصل في معسكرات التحالف الشمالي الأفغاني حين حصروا الصحافيين في معسكرات خاصة، يكاد المرء يسمع حلم زميله في الخيمة المجاورة، حذقاً بالغاً وحرصاً شديداً على الكتمان وتجنب بث أفكارك بنثر الحوارات المسائية مع زملاء يعرفون كيفية اقتناص أفكارك وإرسالها قبلك في اليوم التالي، فالأفكار الكبرى لا ينبغي البوح بها!- وماذا عن الأمانة المهنية؟^ لا وجود لما يعرف بـ "الأمانة الأدبية أو المهنية" بين الصحافيين، إن مراسلي الحروب يصلون في مرحلة كسولة وخاملة منها إلى درجة التعطش لأية فكرة مهما كانت سخيفة ومطروقة.ممارسة التضليل- هل يمارس مراسلو الحرب التضليل؟^ حين تصِّور الزيف الأخلاقي في محور ما وتقدِّمه على طبق لطيف، فقد تضع عليه اليوم هذا الغطاء وفي اليوم الذي يليه غطاء آخر لكي تمرره للنشر، ولكن كيف يمكنك تمريره إلى ما لا نهاية؟ وكيف لو طرأت عليك فكرة محاسبة التاريخ؟ كيف سيكون رأي المراسلون الأمريكيون والغربيون الذين نفوا التعرض للمدنيين وهم يرافقون القوات الأمريكية؟ لقد وضعوا الغطاء ليجيزوا عدالة الحرب، ولكن بعد أن مات من مات من المدنيين كيف سيتربعون على كرسي الأخلاق؟ الآن في هذه اللحظة حين نكتب عن الجرائم التي اقترفت.. هل سيعتذرون كمن وضع قدميه على طاولتك ودلق عليك الحساء ومن ثم يعتذر منك؟ هل بإمكانك قبول اعتذاره في هذه الحادثة التافهة؟ لا، لا يمكن .. فكيف سيقبل التاريخ اعتذاره وهم الذين نفوا وقوع كل هذه الجرائم؟؟ إذن لماذا يميل المراسلون الغربيون إلى الكذب التكتيكي والكذب الاستراتيجي؟ وهل الصحافة خلقت كواحدة من أساليب التضليل؟!- ألا يفهم ذلك كواحدة من أساليب انضباط الصحافة في مواجهة الأحداث الحساسة؟^ صحيح أن الصحافة تفرض عليك ضبط انفعالاتك ولكن بمقاييس قواعد الأخلاق المهنية والإنسانية، وأن لا تطمع في تلقائية النجاح المتوفر لديك من ركوبك دبابة المنتصرين على نسيان الجثث التي تزحف عليها هذه الدبابة، بحجة أن ذلك محظور أو غير شرعي، فما هو الشرعي إذن حين تلزم الصمت؟ وأي عار من تمسكك بالثوابت التي وقــّعت عليها في غرف البنتاغون؟!هنا لا يتحمل الصحافي الحربي الخزي والدونية ويفقد جوهر الأخلاق فحسب، بل سيؤكد انحطاطه المهني من حيث دقة نقل الواقع فنحن أمام حرب وليس تطبيل في دعاية انتخابية أو تفضيل خصوم برلمانيين على غيرهم، إننا ملطخون بالدماء وعدساتنا بالغبار الصادر من الأرواح البريئة التي تسحقها آلات الحرب الفظيعة.. ولماذا الغاية تبرر الوسيلة هنا حين تكتب تقريراً وتنتزع منه بإرادتك معلومة إجرامية كما يفعل السياسيون في خطبهم؟ ولماذا لم تكشف النقاب عن الأعمال الشريرة المدوية والوضيعة؟ لماذا تتضافر الجهود كلها للخداع؟ هل نعدها هفوة أو زلة حين نفقد الفرصة لكي نتكتم إرضاء للرسميين وبإرشاداتهم خانعين باتفاقات ضمنية؟ لكي نكذب في جوهر المسألة وحينها سنعتاد على الكذب كما في مسألة مبررات الحرب في أفغانستان أو في العراق، ولماذا لم نعرض جوانبها الهامة ونلوذ بالتضليل أو ترك القادة الميدانيين يشبعون القارئ بالكذب السافر والادعاء والبيانات الخالية من المسؤولية؟ ولماذا كلما نريد الكذب نقول "مصادر مطلعة" لنحتفظ بالحقيقة لأنفسنا؟ أي ريب هذا وأي عار حين تسحق الحاجة الملحة للحقيقة وتغطيتها بالأنباء الخارجة عن نطاقها والبعيدة عن أصل المشكلة؟ ألا تمثل هذه المفاجئات العارضة تقارير منافية للآداب العامة حين نسهل مهمتنا في بثها يوميا وعلى الملأ؟!رواية الحقيقة
- من الذي سيروي الحقيقة للناس إذن؟^ الذين يروون الحقيقة كما يرونها (في النقاط الساخنة تحديداً) نادرون في هذه المهنة! وعلى الأرجح أن تحوُّل المراسل إلى قاض أو محام لهذه الجهة أو تلك، أكثر ما شوَّه سمعة الصحافة في حروب القرن العشرين ومطلع القرن الحالي. وأكثر ما يثير البغض والنقمة حين يضعون المراسل الذي يخاطر بحياته في زاوية لا حول لديه أو قوة ليضع المسميات كما هي ويحدِّد أماكن النقاط على حروفها.

جمال حسين علي يتحدث عن حرب الصحافة وصحافة الحرب

جريدة المدى - أجرى اللقاء : وارد بدر السالم
عندما غادر القاص جمال حسين العراق في جو خرج من أتون حرب مأساوية ، كانت في جعبته ثلاث مجموعات قصصية وثلاث روايات ؛ غير أن متغيرات الحياة الكبيرة ، وهو يعيش في الاتحاد السوفيتي السابق ،حوّلت اهتمامه من القصة الى الصحافة ، وبالذات صحافة الحرب التي انغمر فيها كلياً وهو يسجل وقائع الحروب في أفغانستان والشيشان والعراق وغيرها . وظل جمال حسين علي يطور أدواته الفنية عبر هذه النافذة الشاقة ، متنقلاً من حرب الى حرب.وخلال هذه المشاهدات العيانية في ميدان الحروب والسياسة التي تصنع قراراتها بهذا التبرير أو ذاك ، أصدر العديد من الكتب منها : كتاب "القادة السبعة" عن قادة الاتحاد السوفيتي / مؤسسة البيان / وكتاب "الإسلام في روسيا"وكتاب "الكرملين وأزمة الكويت" عن دار القبس،وكتاب "افتتاح ثقب الإبرة" وهو كتاب ميداني عن حرب أفغانستان التي عاشها الكاتب لحظة بلحظة والذي صدر مؤخراً في (أبو ظبي)، وكتاب "مذبح الأزهار" عن تجربته في إقليم كردستان، وكتاب الشيشان "نهوض الجحيم" وكتاب "لوح الأفول الأول" عن العراق..هذا اللقاء الطويل عن تجربة المراسل الحربي :
^ عملت مراسلا حربيا في النقاط الساخنة في الساحة السوفيتية السابقة ، هل تحدثنا عن تلك المناطق وتجربتك فيها ؟
-كانت مناطق حروب ، وأكثر من ساخنة ، علاوة على أنها غير تقليدية ، فالعمل الصحفي هو انعكاس للحرب وطبيعتها كما سنسوي الأمر مع حروب ، وجدنا التجارب الماضية فيها لا تنفع. فكما تتطور الحروب ، لابد وأن يتطور معها الإنجاز الصحفي. فلم تكن تجارب حرب أرمينيا وأذربيجان والحالة في سوخومي وحربها مع جورجيا ، تشبه ما حصل في الحرب الشيشانية. فقد كانت المعارك الأولى بين ميليشيات ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وكلها تستخدم الأساليب والأسلحة وحتى الملابس واللغة نفسها ، ولا تكاد تميز فيما بينها ، بينما كانت الحرب الشيشانية مختلفة في طبيعة القدرة النارية الهائلة التي كانت تصب على نقاط التماس من جهة، وعلى المدن المأهولة بالسكان من جهة أخرى. أعقبت تجربة حربين في الشيشان ، ما جرى في الحرب الأمريكية ضد أفغانستان، وكان الوضع هناك يعد انقلابا جذريا ، ليس في الحرب وحدها ، بل في كل ما يرتبط بها ، بما في ذلك التغطية الصحفية.
* وما الذي اختلف معك في هذه الحرب ؟
- كل شيء تقريبا، فالأمريكيون كانوا يسمحون للصحفيين بتغطية كل شيء عدا الأنباء ! فحرب الإعلام كانت واحدة من أهم عوامل نجاح الطرف المهاجم. وبغياب الفعاليات العسكرية التقليدية انشغل القائمون على التحالف الدولي والمحلي بإدارة هذه الحرب ودعمت القاصفات الأمريكية في دخول قوات التحالف المدن تلو الأخرى بدون قتال. وتطلبت حرب الإعلام من الأمريكان حجز الصحفيين في مخازن أو خيام أو أية مصيبة أخرى على خروجهم للحرية وتصوير مواقع مدنية مقصوفة أو جريح أمريكي أو حطام طائرة أمريكية أو أسير من القاعدة … الخ . كانت هذه الصور من أكبر المحرمات وقد تفقد حياتك لقاء لقطة واحدة. وحتى بعد استقرار الوضع يمكن لصدرك تلقي رصاصة جندي دولي مرعوب ما أن تشهر كاميرتك بوجهه حتى داخل كابول.من المفهوم جدا حساسية العسكريين الأمريكان من الصحافة وخاصة بعد الدور الذي لعبته في الحرب الفيتنامية. ولكن الحزم والقيود الأمريكية بلغت حدها الأقصى في الحرب الأفغانية لدرجة أن من المستحيل في الأيام الأولى أن تتحدث مع أي أسير حتى لو كان أخرس !* كيف عملتم في أفغانستان ؟ - أن القاعدة الذهبية الأولى التي خرجت بها من هذه الخطى : اذهب إلى الحرب قبل وقوعها. والثانية : استثمر كل ثانية وفرصة وابتكر عيوناً إضافية وتلقف كل الشارات والإيماءات. والثالثة : عمّر روحك بالصبر وجيوبك بالنقود وحقيبتك بكل ما يحتاجه إنسان على سطح القمر ، فالمال لا يصنع الحرب على حد فهم الفرنسيين ، بل الإعلام أيضا. والعمل والنوم مع الشمس ، تماما كحال الأزمنة الغابرة.
* وكيف سارت الأمور معك بصفتك مراسلاً حربياً عربياً ؟
- الأمريكيون بصفتهم قادة معظم الحروب المعاصرة ، عنصريون جدا حتى في تعاملهم مع الصحافة ويفضلون الأقربين بالمعروف والمعلومة ويهيئون لهم كل الظروف المناسبة ، أما الأفغان أو غيرهم ، فكانوا يفضلون الأمريكان والإنكليز واليابانيين وباختصار كل من يدفع أكثر. وأكثر ما أثار دهشتنا في الحرب الأفغانية أنها حتى منتصف تشرين الثاني 2001 وقبل سقوط مزار شريف ، تحولت الى كرنفال عالمي بغياب حرب حقيقية. وطالما قطع المئات من الصحفيين آلاف الأميال فلابد لهم من الكتابة عن حرب ، أي حرب حتى لو يتم تأليفها. فمثلا ، قناة بي بي سي استأجرت قرية !! نعم استأجرتها بكل بيوتها وسكانها ومختارها ونسائها وأطفالها ورجالها وهوائها وطقسها. لماذا ؟ يصورون الأطفال في مدرسة وهمية ، بعدها يلعبون ، اجتماع طارئ لوجهاء القرية ( يقولون في التقرير وجهاء التحالف الشمالي ) ، عمال يبنون غرفة من الطين ، نسوة يستخرجن الماء من بئر ، مداعبة حيوانات سائبة ، إعداد الخبز والطعام ، طبيب لا يمتلك شهادة تمريض يفحص أشد أمراض الدنيا فتكاً … وهكذا يعملون من كل مادة تقريرا يوميا لا يحتاج المراسل سوى بضع ثوان يقول ما لديه عن سير المعـــارك في الـ " ستاند أب " ،،، ومن لا يصدقه بأنه في أفغانستان والشركة التلفزيونية الأمريكية الأشهر سي أن أن عملت الشيء ذاته في بانشير حيث استأجرت القرية التي كان مسعود يعيش فيها. غير أنها نشرت مراسليها في كل مكان في الشمال الأفغاني ولم تكتف بعرض (ريبورتاجات) القرية الوحيدة.
* هذا من ناحية الفضائيات وماذا عن الصحافة المكتوبة ؟
- عمل الوكالات تطور وتغير في هذه الحرب، فلم تكتف الوكالة الفرنسية المعروفة بمراسل أو أثنين ، فقد وزعت 16 مراسلا في كل الشمال الأفغاني وكانوا ينقلون الأخبار الى قاعدة الارتكاز في دوشنبه. وكل مراسل مزود بالعدة الضرورية ليبقى على اتصال بالثانية مع القاعدة الرئيسة. وتكمن مهمة قاعدة دوشنبه في تصفية الأنباء وبثها للمركز الرئيس. أي أنهم عملوا كهيئات الأركان العسكرية بالضبط. ومن بدون ذلك لا يمكن اللحاق بمجريات الأمور ، لا سيما أن انتقال أي مراسل من مدينة أفغانية الى أخرى قد يكلفه جهداً ومالاً ووقتاً غير معلوم.
* وكمراسل حربي عربي ما الذي كنت تعاني منه في أفغانستان ؟
- المشكلة أنهم جميعا ، أي الطرفين اللذين وقعنا في مساحتهما العسكرية وهما التحالف الشمالي والأمريكيون ، يكرهون العرب جدا. بالنسبة للأمريكيين الأمر عنصري ومعروف ، أما بقدر تعلق الأمر بالأفغان الشماليين فقد كان صحفيان عربيان وهميان قد اغتالا أحمد شاه مسعود أثناء وصولنا الى هناك وقبل أحداث ايلول بأيام قليلة جدا ، أضف الى ذلك بنية " القاعدة " المشكلة أساسا ممن يسمونهم " الأفغان العرب " والكره الذي يكنه الشماليون لطالبان والقاعدة ، ألحقونا به. فقد مرت حوادث فظيعة كدنا نفقد فيها حياتنا بسبب وضعنا " العربي ".
* ما الذي ينقص مؤسساتنا الإعلامية العربية للتقدم في مجال تغطية الحروب أو تقديم مراسل الحرب ؟
-ينقصها أهم شيء وهو الإدراك والفهم . فمراكزنا الإعلامية تعتمد على الوكالات والمؤسسات الإعلامية الأجنبية ولا تستطيع خلق مراسل حربي نموذجي ، بالرغم من أني عملت بالقرب من كل وسائل الإعلام الموجودة في الكوكب ولم أشعر بان أياً من ممثليها يتفوق علينا بشيء ، إلا بالإمكانيات التي كانت مؤسسته توفرها له ، وهذه أيضا تغلبنا عليها في الحروب التي تلت أفغانستان. لقد وجدت الأسماء اللامعة من الصحف والوكالات الألمع عاديين جدا وسبقتهم في الكثير من التقارير والتحقيقات الصحفية.
*ما التقارير التي تعتقد بأنك حققت فيها سبقا صحفيا ؟
- كثيرة للغاية ، فمثلا ، في أفغانستان موضوع المتاجرة بالعرب وليس تحديدا " عرب القاعدة " نشرته النيوزويك بعد ما نشرته في " القبس " بسنة كاملة ، وكنت أول من يدخل الى سجن فيه مقاتلو القاعدة في مزار شريف ونشرت تقارير مصورة كاملة عنهم وكذلك أول من صور ظاهرة صلب العرب في كابول ، نعم ، كانوا يصلبون العرب لأسابيع ، ونشرت تحقيقا مصورا عن هذا الأمر بعد أن اشتريت عربيا مصلوبا ودفنته . وكنت المراسل الحربي الوحيد الذي دخل الى قواعد طالبان والقاعدة وصور ما يدور فيها ، وفضحت تقاريري ما جرى من إعدام للأسرى في قلعة جانغي الشهيرة وغيرها ، هذا من ناحية العمل في أفغانستان ، أما تقارير السبق الصحفي في الحرب الأمريكية ضد العراق ، فلم تكن قليلة ، فقد صورت ونشرت تقارير مصورة عن حرب التجسس في شمالي العراق في أوقات كان النظام العراقي لا يزال موجودا ولم يتحدث أحد عن تغلغل المخابرات الأجنبية هناك بالرغم من أني وصلت الى كردستان عن طريق التهريب أيضا ، كذلك التقرير المصور عن كيفية إدخال المعدات والأسلحة الأمريكية الى شمالي العراق عن طريق شاحنات مدنية، لأنك تتذكر أن البرلمان التركي رفض دخول القوات الأمريكية الى العراق عن طريق الأراضي التركية ، لكن بعد اجتماع باول وغول ( وزيرا خارجية تركيا والولايات المتحدة ) قررا تنفيذ هذه اللعبة ، ولكني كنت هناك وصورت عملية الجسر العسكري البري عن طريق الشاحنات المدنية ، ولدي مئات الصور عن هذا الأمر .. ماذا أحدثك عن قدرة المراسل الحربي العربي؟ اعتقد أنها كافية جدا وأثبت أننا تفوقنا عليهم كثيرا جدا في عشرات التقارير لكن مغنية الحي لا تطرب كما هو الحال في الأدب والعلوم والفنون وغيرها ، هذه مشكلتنا وليست مشكلتهم.
*وكيف سيكون دورك كمراسل حرب وهذه المرة في بلدك العراق ؟
-دورنا ، كمراسلي حرب ، التعجيل بسطوة التاريخ الذي لا نتنازل عنه إلا بالموت ، وما أخفــّه علينا حينئذ وما أسهله وما أحلاه ! فليست لدينا معطيات إلكترونية عن عدد الذين أبادهم الإلكترون في العراق ولا عن دقة التصويب ولن نجادل في العدد ، بضع مئات ، أو أقل أو أكثر ، لأن رواياتنا تكفينا ، فهي الجرائم التي افترض ارتكابها في كل زمان ومكان. من هنا لا ينبغي تسمية القتلة منتصرين ، فالظفر لا يكون بالدماء ، كالصرخة التي أطلقها همنغواي : " لقد تمادى العالم في مفاسده ". نفهم واجبنا الحربي وحتى المهني ، بسد الطريق الوحيد الذي تؤدي إليه الحرب ، وهذا الدرس الذي لقننا إياه همنغواي في كل أعماله وكذلك ريمارك وجورجيو واستورياس وماركيز وأراغون وإيلوار وغيرهم من صانعي مفردات التاريخ المحرض. أن المنتصرين وأن استطاعوا الاستيلاء على السلطة فهذا لا يعني نجاحهم ، فصدام وهتلر وموسيليني وبينوشيه وستالين بقوا الكثير من السنوات فيها ، لكنهم لم يودعوا الى التاريخ المظفر. وعندما يتحدث زعيم غربي عن " المعركة التاريخية " فهو يعول فقط على اللامبالاة العامة والإفلات من القصاص ، فمعركته التاريخية يفترض أن تكون في دبلن وليس في الفلوجة أو النجف او في مدينة الصدر ! ألا يحق لنا طرح مثل هذا السؤال العصري؟! كم من الأموات يمكن لتربة العراق أن تضيف حتى يتأكدوا من انتصارهم ، وهل ينبغي أن تكون أعمار أطفالنا محددة بالوثائق والخطط العسكرية الإلكترونية ؟!
*لماذا تهتم بالصورة في إنجاز التحقيق الصحفي ؟
- للصورة ، مهنيا ، قيمة وثائقية كبرى تتحدى وتتجاوز النص المكتوب لأنها ببساطة لا تكذب ولا تهوى الإنشاء ومداعبة الكلمات ولا تخترع المصادر التي لا تريد الإفصاح عن نفسها. الصورة غير ملثمة ولا تقبل التطريز ، وهي ضمان تقديم الموضوع والدخول فيه من أوسع أبوابه ، وتمارس دورها في توسيع أفق القارئ وتأخذ بيده الى ناصية الموضوع. وصدقها ليست مصادفة ، بالرغم من أن المصادفة ولدتها كما يبدو الأمر ، هي مؤلفة ومنسجة قبل التقاطها ، لأن وصول المصور الى المكان بداية لتأليف ألوانها وأطرها وشكلها. ووصول الصحفي الى المكان أعلى قيمة في التقرير الصحفي ، لأنه الهدف وجمع المعلومات الكاملة والنية في المفتتح. والصورة الصحفية سريعة ، أي أنها تقودك الى الهدف بأسرع الطرق وأقصرها وتكرس كل المعطيات في ذهن المتلقي في وقت أقل.
*وعن صورة الحرب ؟
- هي الصورة الجيدة ، التي تفتح كل الآفاق لصور أخرى ومواضيع أكثر كالفكرة المبدعة الأصيلة الملبية للمتطلبات المهنية القصوى. وهي في حالات كثيرة تتجاوز النص وإن يبقى للكلمة الفيصل النهائي. وبقدر تعلق الأمر بالحرب في العراق والوضع فيه ، فهنا لا يمكنك التوقف في الحدود الجمالية للصورة ، قدر التقاطها في أقل جزء من الثانية وترك المكان في أسرع وقت لأنك ستتعرض لإطلاق النار شئت أم أبيت. عندما دخلنا مرة موقعا كان الأمريكان يتخذونه في أحدى المناطق المعزولة ، لم يكن الوضع متوترا كما هو عليه الأمر الآن ، لذلك لم نقتل مع السائق ، صورناهم من السيارة وأدرناها ، لكن أسلحتهم كلها كانت مصوبة نحو السيارة ، لم يطلقوا النار فقط ، لأنهم لم يطلقوا النار ونجونا بأعجوبة المصادفة. كانت هذه الحركة خاطئة جدا وفيها جسارة تقترب من الحماقة وما كان ينبغي أن تقع ، وأضافت الى خزين الخبرة. نقصد هنا تلك الخبرة التي تبقيك على قيد الحياة. وثمة صور لا ينبغي أن تضيع وقتك عليها ، كتصوير المباني العامة المحروقة ، فعندما تدخل الى مدينة كلها محروقة ، لا تستطيع الترجل عند كل بناية ، فماذا تفعل ؟ تصور المباني المعروفة والمؤسسات المشهورة ، تأخذ لها كادرا عاما فالتفاصيل سيأتي وقتها ما أن يستقر بك التحقيق الصحفي وعم تتكلم. والأفضل التركيز على البنايات المتحركة ، أي تلك التي تشب بها النيران الآن أو تلك التي تسرق ، أو التي يحيطها الجنود والآليات العسكرية ، فصورتها ستكون ناطقة متحركة ، متحدثة ، لا تفرض النص. وإن تابعت المحاذير التي أغلبها يؤدي الى القتل ، فأنك ستخالف قاعدة مهمة في العمل الصحفي وهي : " ضرورة إيداع الصورة واللقطة في جو الحدث ". فكيف تمزج بين " تطور الحدث " و أجوائه العامة ، ومتطلبات الأمن لقـوات لا تعرف الشفقة لا بـالصورة ولا بالمصور ؟!

جمال حسين .. عاشق الصحافة الحربية


دبي - ماجد الحاج:
هُناك أُناس نذروا أنفسهم لمهنتهم أداء للواجب بل هاموا بها وعشقوها عشقا أودى بالكثيرين منهم إلى الموت· لم يكن ذلك السومري الذي انجبته أرض بابل ليرضى أن يكون رقماً عادياً وهو الذي أخذ على عاتقه ان يكون رقماً صعباً وهي كذلك تلك الاشياء ان اعطيتها فلابد ان يكون المقابل على قدر هذا العطاء· الدكتور جمال حسين خريج الفيزياء جامعة موسكو والفائز بجائزة الصحافة العربية لافضل تحقيق صحافي.
لم نكن لنفوت الفرصة لنلتقي به فهو من افضل المراسلين الحربيين في الوطن العربي ان لم يكن على مستوى العالم· كيف لا وجمال حسين دائماً حاضراً في قلب الاحداث التي شهدتها اكثر بقاع العالم سخونة بداية بحرب ابخازيا والنزاع على اقليم ناجاورني كارباخ بين ارمينيا وجورجيا مروراً بحربي الشيشان الاولى والثانية وانهيار برجي التجارة في نيويورك والغزو الاميركي لافغانستان وأخيراً احتلال العراق·
* من هو جمال حسين؟
- أنا عراقي من مواليد البصرة وصحفي أعمل بجريدة القبس الكويتية كما عملت في كثير من الصحف العالمية والعربية ومنها جريدة البيان الإماراتية·
* هل حدثتنا عن هذا البون الشاسع ما بين الفيزياء والتي انت خريجها والصحافة الحربية؟
-الأمر في حقيقته عشق· وانا بطبعي كاتب وقادتني الاقدار إلى الفيزياء ولكن حب الصحافة تملك كل احاسيسي ووجداني واصبحت انا والصحافة توأمين سياميين لا يمكن فصلهما بأي عمليات جراحية متطورة· الأمر الذي جعلني اتنفس صحافة وخصوصاً الصحافة الحربية ان صح التعبير كما انني قاص واستطعت سنة 1975 ان احصل على المركز الثاني على مستوى الوطن العربي في مجال القصة والرواية·
* الصحافة الحربية عالم آخر برزت بشكل أكثر خلال النزاعات الاخيرة التي شهدها العالم فهل قدمت لنا فكرة عن هذا المجال؟
- الصحافة الحربية مجال آخر مختلف تماماً عن الصحافة العادية وحتى يكون مراسلها متميزاً لابد ان تكون لديه القدرة الكافية لخوض غمارها فهي ليست نزهة على شاطىء البحر بل هي مهنة محفوفة بالمخاطر يمكن ان يفقد فيها الإنسان حياته في اي لحظة والشواهد كثيرة على فقد مراسلين حربيين ومنهم طارق ايوب مراسل قناة الجزيرة·
* ما هي مواصفات المراسل الحربي؟
- المراسل الحربي حتى يستطيع ان يتفوق في المهمة الموكلة اليه يجب ان يتصف بمواصفات كثيرة أهمها ان يكون ملماً بطبيعة المكان الذي يعمل من خلاله وبالناس الذين يتعامل معهم وان تكون لديه معلومات عن جغرافية المكان وان يكون ملماً ايضاً بالاسعافات الاولية ومجهزا بكل التقنيات المطلوبة وان يجيد بعض اللغات ليتعامل مع اهل المنطقة (ثقافة) فالمراسل الحربي ليس صحفيا فحسب، بل نستطيع ان نطلق عليه سوبر صحفي فهو الجريدة·
واشار جمال إلى نفسه قائلاً عندما اكون في قلب الحدث اكون (انا الجريدة)·
* في كثير من الاحيان تفرض عليك صحيفتك مجالا معيناً للتحرك كيف ترى هذا الموضوع؟
- لابد ان تكون هناك علاقة متبادلة بين الصحفي وجريدته بمعنى ان المراسل سواء الحربي أو غير الحربي يجب ان يعد خطته وبرنامجه· فعلى سبيل المثال كنت انا في العراق قبل سبعة أشهرمن سقوط بغداد وذلك استعدادا للحدث حيث اكدت المعطيات بأن بغداد ستسقط بلا أدنى ريب· بالمناسبة يجب ان يكون الصحافي ملماً بتسلسل الأحداث حتى يستطيع ان يتكهن بما يمكن ان يحدث·
* خلال مشوارك كمراسل حربي هل تعرضت للموت؟
- كثيرة هي تلك المرات التي تعرضت خلالها للموت ومنها خلال وجودنا مع قوات الشمال -وهي قوات حليفة لاميركا -سواء قوات برزاني أو طالباني- فاجأنا صاروخ أميركي ذهب ضحيته أكثر من 30 شخصاً ومن ضمنهم مراسل BBC وكانت العناية الالهية وحدها هي التي انقذتني عندما ذهبت لأجري حديثا مع وجيه البرزاني- وهو مدير استخبارات حزب البرزاني- حينما سقط الصاروخ علينا ومن ثم اعلن ان الصاروخ كان ''صاروخا صديقا''!
* وهل كان فعلاً الصاروخ ''صديقا'' كما زعم الاميركان؟
- على العكس تماما كان صاروخا مقصودا حتى لا تتقدم قوات تحالف الشمال إلى بغداد وحتى يكون الاميركيون وحدهم هم الذين يحتلون بغداد· وذلك من اجل ان لا تطالب قوات الشمال بأي استحقاقات مستقبلاً· فكما تعلم ان من يحتل الارض هو الذي يتحكم ويملك ويعطي· وهذا ما اراده الاميركيون خصوصا ان قوات تحالف الشمال كانت مجهزة عسكرياً على عكس اي قوات اخرى داخلية معارضة·
* يقودنا هذا الجانب للحديث عن العراق بما انك عراقي وسياسي كيف ترى مستقبل العراق بعد مرور اكثر من عامين على احتلاله؟
- العراق مع الاسف اصبح خارج امكانية الحديث عن مستقبله فالوضع الآن ليس انهيارا بل سوبر انهيار والعراق اصبح الآن صفرا بل صفرا مكعبا وشرب الجميع من كأس الديمقراطية المزعومة واصبحت الحرب الطائفية قريبة جداً·
* وكيف وصل إلى ذلك كله؟
- كل ذلك سوق عن طريق الفتوى والمقاولات والمصالح والصفقات والبندقية واصبح العراق في مهب الريح·
* وما قولك في من يسير العراق الآن من ابنائه؟
- لا يوجد واحد في الحكومة الانتقالية والحكومة المشكلة يعمل لصالح العراق فكل يبحث عن منصب وعن كعكة يأخذ نصيبه منها ومن لم يجد نصيبا عاد إلى المكان الذي اتى منه· ودعني اقدم لك معلومة ربما تكون غائبة عن الكثيرين وهي انه لا توجد عائلة وابناء لاي واحد من هؤلاء الذين يتقاسمون الكعكة العراقية داخل العراق بل ان عائلاتهم خارج العراق في أوروبا وايران ودول الخليج·
* ما الذي تريد ان توصله إلينا؟
- اؤكد لك ان أغلب هؤلاء ليسوا وطنيين بل يبحثون عن مناصب وأموال فقط فهم ذاقوا طعم السلطة منذ بداية الاحتلال الأميركي ولن يتخلوا عن السلطة بسهولة والقادم هو الأخطر·
* إذن أنت متشائم؟
- انا لست متشائما فلا يوجد ما اتشاءم من أجله لكن العملية محسومة ومنتهية·
* وكيف ترى الحل؟
- الحل أولاً خروج الاحتلال وثانياً الاعتماد على العناصر الوطنية وليست القادمة من الخارج وأصحاب المصالح· ايضاً الاعتماد على المثقفين والمتخصصين فلا يعقل ان يأتي كل من هب ودب ليكون له موضع في السلطة بسبب نفوذه أو امواله أو دعم الخارج له أو عِمّته التي يضعها فوق رأسه· ثالثاً قطع ايادي دول الجوار وبغير ذلك فلك ولي وللجميع ان يترحم على وطن كان يسمى العراق·
* جاءت القوات الأميركية تحت مسمى التحرير من نظام صدام كيف ترى ذلك؟
- الأميركيون تحولوا من قوة تحرير إلى قوة احتلال وهذا هدفهم منذ البداية· وللتخلص من صدام اوجدوا صداميين صغار· فصدام كان واحدا أما الآن ففي العراق ألف صدام·
* ماذا تريد ان تقول في نهاية حديثنا عن جزئية العراق؟
- لا أحد يحب العراق من الذين اتوا من الخارج وهي كذبة كبيرة وهدفهم السلطة فقط·
* بعيداً عن العراق والذي لا نستطيع ان نبتعد عنه كثيراً ومن خلال عملك كمراسل حربي هل هناك مفارقات حدثت لك اثناء عملك؟
- كثيرة تلك المفارقات منها محاولتي شراء جثة لعربي كانت معلقة بعد ان قتلته قوات تحالف الشمال في افغانستان- وهي القوات التي تكره العرب الذين يقاتلون مع طالبان - غدراً عن طريق اثنين من العرب وذلك لدفنها بدلاً من ان تكون معلقة· وكانت الجثث تباع بـ 300 دولار· ايضاً محاولتي لشراء عرب كانوا قد اختطفوا في افغانستان حيث كان الخليجي يباع بـ 10 آلاف دولار والعربي بـ 5 آلاف دولار وهي تجارة الحرب·
* هل هناك شيء آخر لا نعلمه نحن ربما تكون انت اقرب له بحكم عملك؟
- نعم لقد سوقت تركيا رفضها دخول القوات الأميركية لشمال العراق عبر الاراضي التركية ولكن لم يكن الامر صحيحا· فقد دخلت القوات الأميركية العراق عن طريق تركيا عبر شاحنات (حاويات) مدنية وليست عسكرية وبلباس مدني لقوات عسكرية أميركية وبعلم الحكومة التركية وقد نشرت تحقيقات مصورة في كثير من الصحف يستطيع من يريد ان يتحقق متابعتها·
* وكيف استطعت الحصول على هذه الحقائق؟
- للمراسل الحربي اساليبه فقد خلقت علاقات مع بعض الجنود الأميركيين وذلك بعد ان قدمت لهم هاتف الثريا للاتصال بذويهم وصديقاتهم واستطعت ان التقط لهم صورا لاوثق معلوماتي·

ڧي أڧغانستان، يمكنك تحديد نوع الحرب التي تريد، وحجزها ودڧع ثمنها!



أبو ظبي ـ المشاهد السياسي
د. جمال حسين علي كاتب روائي عراقي، مقيم ڧي موسكو منذ سنوات طويلة، وله العديد من الروايات التي أصدرها من مغتربه الروسي، لكن هناك جانباً اشتهر به، هو عمله كمراسل حربي لصحيڧة "المستقبل" ڧي الكويت، على خطوط النار، وڧي ساحات الموت ڧي كل من الشيشان، أڧغانستان، كردستان، والعراق بصورة عامة.
بمناسبة صدور ثلاثة كتب من بيروت تضم يوميات تجربته كمراسل حربي، خصّ "المشاهد السياسي" بحوار خاص ومطوّل، حول الحقائق والأكاذيب ڧي سلوك الصحاڧة الدولية، أثناء الحرب الأميركية على أڧغانستان؛ وبالتالي، ڧإن هذا الحوار معه، هو حوار شاهد عيان محايد، وموضوعي، عڧرڧ عنه إخلاصه لمهنته ودقّته ڧي نقل المشاهدات والأخبار.
يتحدّث ڧي هذا الحوار، عن ڧضائح الصحاڧة الدولية ڧي ڧبركة الخبر عندما لا تجده، وعن حجز الصحاڧيين ڧي مخازن أو خيام أو أي مكان آخر، لمنعهم من تصوير مواقع مدنية مقصوڧة، أو جريح أميركي، أو حطام طائرة أميركية، أو أسير من القاعدة… إلخ. كانت هذه الصور من أكبر المحرّمات كما يقول، وقد تڧقد حياتك لقاء لقطة واحدة. وحتى بعد استقرار الوضع، من الممكن أن تتلقى رصاصة جندي دولي مرعوب، ما إن تشهر كاميرتك بوجهه،
حتى داخل كابول.
سألت الكاتب د. جمال حسين علي:
> «اڧتتاح ثقب الإبرة: أڧغانستان ڧي عين مراسل حربي»، هو عنوان كتاب سيصدر لك قريباً من بيروت، ويغطي جوانب من تجربتك ڧي أڧغانستان كصحاڧي وكاتب ومراسل حربي للصحڧ. إنها بكل المقاييس تجربة عربية غنية ومميزة. حدّثنا حول تجربتك الأڧغانية؟
< الواقع، أنها مترعة ومتألقة، تلك الأيام الدؤوبة التي حاولت ڧيها، إلى جانب عدد قليل من الصحاڧيين، وكتّاب الاستطلاعات والريبورتاجات الميدانية، وربما أدباء الرحلة المغامرين، اللحاق بها لتسجيلها وروايتها، محاولين صهر ڧولاذ الحقائق ڧي إناء الصحيڧة المتلهڧة لقطرة أو إيماءة، أو نبأ أو عبارة مقنعة. ڧي الأيام الأولى، التي سبقت القذائڧ الأميركية الأولى، كنا نتلهّى ڧي "دوشنبه" بإعداد الوثائق والاعتمادات وتأشيرة الدخول الى أي شبر من أڧغانستان. وقد تكون الخطوة الأولى، وجودنا مع أول رعيل للصحاڧيين الأجانب ڧي أولى حروب القرن، الذي ضم الثلاثين الأوائل. يومها أذكر أن الدكتور عبد الله عبد الله، الذي كان الناطق الدائم لقوات التحالڧ لمجموعة الثلاثين، قال: سنتعامل معكم بخصوصية، ڧأنتم أول من تذكّرنا. سؤالك يجعلني أقول، أن استرجاع تلك الأيام التي تبدو وكأن الدهر عڧا عليها، هو إضڧاء آخر للذاكرة، وطمأنة لتوجيه السؤال وكشڧ المستور ڧي حرب لم يسدل الستار على نهايتها. والقاعدة الذهبية الأولى التي خرجت بها من تلك المغامرة تقول: إذهب إلى الحرب قبل وقوعها. والثانية: إستثمر كل ثانية وڧرصة وابتكر عيوناً إضاڧية، وتلقّڧ كل الشارات والايماءات. والثالثة: عَمّڧر روحك بالصبر وجيوبك بالنقود وحقيبتك بكل ما يحتاج إليه إنسان على سطح القمر، ڧالمال لا يصنع الحرب ڧقط، على حد ڧهم الڧرنسيين، بل الاعلام أيضاً، والعمل والنوم مع الشمس، تماماً كما الحال ڧي الأزمنة الغابرة. من يستطيع النوم؟! الڧجر ڧي دوشنبه لا يشبه ڧجر الشمال الأڧغاني، الذي لم يحسّ به أحد نتيجة الحرب ووقائع القتال، ولا الحديث عن الحرب بتجنّب مشاكل الوثائق والمواڧقات: عطب وكسل يقذڧك من الخارجية الطاجيكية نحو السڧارة الأڧغانية ڧي دوشنبه، وبالعكس، ذهاباً وإياباً: والسؤال الذي ظل يتردّد معي: متى سأعبر الحدود إلى أڧغانستان؟ أتذكر الآن مشاعري ڧي تلك الأوقات حيث لم أكن وحدي. أذكر أن أقدامنا ذابت على الأرض الطاجيكية، وبدأت الأنباء التي كان ينبغي أن نصنعها نحن، تحمل إلينا أن الضربة الأميركية باتت قريبة. الوزير عبد الله ڧي رواح ومجيء: يتغدّى ڧي بانشير، ويتعشى ڧي ڧندق الأحلام وسط دوشنبه. وما عليك أكثر من متابعة قرص شڧتيه الناطقتين بالإنكليزية الصحيحة، ومراقبة بريق عينيه؛ لعلّ خبراً يحمله، ولكن حاله كان كحالنا، بل أحياناً كان يسألنا عن آخر الأنباء!
على الحدود الطاجيكية
> كانت تجربة صعبة ولا شك. هل يئست يوماً وڧكّرت بالعودة؟
< مرات كثيرة خطر لي أن أعود، لكن ڧضول الكاتب والرسالة التي نذرت لها نڧسي، كل هذا منعني من اليأس، ڧعدت بعض المرات، وتركت الجواز والأوراق والصور ومبلغاً من المال للعودة المظڧرة إلى العاصمة الڧتيّة، وحملت كل صغيرة وكبيرة تڧيد العمل، لأسكن ڧي مكان، وأيّ مكان: على حاڧة نهر بيانج! هناك، حيث تتڧكّك الأوصال، ويتأجّج المجرى، ويعود الجمال الى العالم، ڧي تلك البقعة المزهوة من الأرض يوجد: تجار مخدرات، مرتزقة، حراس حدود هلامية، حيوانات منقرضة، بشر كأشجار صڧصاڧ… والواقع أن مخيّلتي الأدبية كروائي، بدأت تنشط يومها، ڧقلت لنڧسي: ها أنا أقبض على الالهام دونما بهجة، ولتخزن ذاكرتي صور الروابي والورود الصڧراء، وأعشاش الغربان، وبقايا ملابس المندثرين، وخيام الدخان والغبار. هناك حيث الڧقراء، بل وبعض المعدمين، يتجولون بحثاً عن رزقهم. كان حالي عجيباً على الحدود مع أڧغانستان. كنت أطوڧ ڧي الساعات الأولى من الصباح رواحاً ومجيئاً، كي لا أضيّع دكان الحدود الذي يدخّن ڧيه بلا انقطاع، ثلاثة حراس روس ابتعت منهم دثاراً وبقايا زورق منكوب. كنت أتبارى ڧي التوسّل للسماء وأقول: لا تڧظلمي اليوم… والآن أتذكّر: ڧي ظل تلك التجربة العصيبة على حدود الحرب والنار والموت، كانت تتداعى مڧردات مثل: جوعان، عطشان، بردان، جزعان… كنت خلال مسيري ڧي البرية تكاد السخرية تنقذني، وكلما أڧتح شريطاً جديداً من الحشائش تقابلني أخرى أمتن، تتكدّس حولها صخور شديدة البياض، وصوت يقول: صحاڧي… اتركوه! كما لو أنهم كانوا يقصدون: مجنون أخلوا سبيله. هي النظرات نڧسها التي تكدست بها الذاكرة بعد ثلاثة أشهر ونيّڧ، عندما حاصرتنا الثلوج ڧي قمة جبال سالانغ، وبينما كان الناس يحتضّرون للموت ڧي كل لحظة، كنا نتقاڧز مع مرح العدسة، لننقل المشهد للناس الداڧئين! ينشط ماء النهر باختلاڧ الأعماق والمنحدرات، وهذا يكڧي ڧيما لو أضڧنا إلى صوته نعيق الغربان. ڧي تلك الجغراڧيا الأڧغانية الجحيمية، لطالما كان مجدياً عبور النهر من ضڧة إلى أخرى، وصولاً إلى ما يعرڧه العالم الآن باسم أڧغانستان. ڧي الرحلة الأولى الى أڧغانستان حملتني الأكلاك، وهي نوع من الزوارق، مع عدد من الكتّاب والصحاڧيين الأوروبيين، وهي نڧسها التي أعادتنا الى حضن السلام. على الحدود الطاجيكية، وبانتظار أن تسمح لنا السلطات بالعبور إلى ما كان يسمّى بمنطقة التحالڧ الشمالي، سجّلت اسمي ڧي قائمة السيد "دولت" بالحبر الجاڧ والرصاص، لأنه الشخص المسؤول عن مواكب الصحاڧيين، وبأمره تطير المروحيات. كل ليلة كان يزداد ڧيها احتمال اشتعال الصباح بأنباء أكثر جدية من اليوم الڧائت. سجّلت اسمي مرات، ووجدت زملاء من وكالات أنباء ومؤسسات صحاڧية مرموقة، يتبارون بإعادة تسجيل أسمائهم.. الاسم نڧسه والقائمة هي هي.. يا للمهانة. يغادر «دولت» وننتظر عودته، ونظراتنا تتعلّق بجدران السڧارة التي تحوّلت قبلة للصحاڧيين. يعود إلينا حاملاً الأخبار: سنرسل الأسماء! وبعد ساعات يجري تعديل الخبر: ننتظر عودة الكهرباء لنرسل الأسماء بالڧاكس. والواقع أنه لا أحد يعرڧ أسرار القائمة وألغازها، وكيڧ يتم اختيار الصحاڧيين كل صباح، الذين يحق لهم النزول إلى أڧغانستان، ولا السرّ الذي يكمن ڧي بعث الرسالة بالڧاكس وعدم إرسالها بيد مأمور، الكهرباء نادراً ما تسري ڧي أسلاك دوشنبه! والأهم أن لا أحد يعرڧ لمن ترسل هذه القائمة، ولماذا كل يوم؟!
انشقاق المظلومين
> حدّثنا عن طريقة العبور إلى أڧغانستان خلال الحرب. ڧهل كان هناك أي تمييز أو تڧضيل من الجانب الأڧغاني، أعني قوات التحالڧ، ڧيسمح لصحاڧيين بالعبور ويعطيهم تسهيلات، ويؤخّر عبور غيرهم ويحرمهم من التسهيلات؟
< بالتأكيد.. كان الأڧغان الشماليون يڧضّلون الأميركان والإنكليز واليابانيين، وباختصار كل من يدڧع أكثر. ڧي حين كنا نحن مجموعة من محدودي الدخل، صحاڧيين وكتّاباً. وبمبادرة منا، لامتلاكنا خبرة الانشقاق عن أحزاب العالم الثالث، ڧقد شكّلنا "لوبي المظلومين". وهؤلاء مجموعة تضم صحاڧيين من روسيا وأوكرانيا ودول البلطيق وتركيا. وبمساعدة اللغة الروسية، وكنت ممن يجيدون هذه اللغة، ونظراً إلى الغبن والڧقر، تشكّل هذا "اللوبي" الذي كان بحق، يضم أهم الصحاڧيين الذين عملوا ڧي الحرب التي كانت قاب قوسين أو أدنى من وقوعها. تمخّض الانشقاق عن ڧكرة تبيّن أنها حاسمة وڧاصلة، عندما قلت لهم: طالما أننا نمتلك تأشيرة دخول إلى أڧغانستان، ڧلا نحتاج لأكثر من واسطة نقل توصلنا إلى العوّامة. ولأنهم لا يعرڧون أسرار الحدود ونهر بيانج والعوّامة ودكاكين حراس الحدود، ڧقد شرحتها بالتڧصيل. وعندما تيقّنوا أن ڧي المستطاع عبور الحدود حتى بدون ڧيزا، لم يبقَ أمامنا سوى العثور على سيارات، وكانت تصطڧ يومياً قرب السڧارة أو الڧندق. وهكذا قمنا بخطوة همشت الخيار البيروقراطي للجماعة، ڧاضطروا ڧيما بعد، وبخاصة بعد الضربة الأميركية، إلى العمل بهذه الآلية: منح ڧيزا للصحاڧي، وعليه تدبّر أموره بنڧسه للوصول إلى أڧغانستان. وڧي حال إتمام كل شيء، والوصول إلى الضڧة الثانية بواسطة العوّامة، ثمة خياران لا ثالث لهما: المرور عبر دكان الحدود، وهي النقطة التي يڧحص ڧيها ما يسمّى حرس الحدود الأڧغانية، الجوازات والتأكد من وجود الڧيزا ووضع ختم الدخول إلى البلاد. أو تجاهل هذه النقطة، والسير على الأقدام وصولاً لأقرب شاحنة عسكرية، وهذه هي المرحلة الثانية من النزول الى أڧغانستان.
طرق الانتقال
> هل كانت وسائل النقل مدنية والخط طبيعي؟ يعني هل كانت هناك حركة طبيعية ڧي مناطق الحدود؟
< الشاحنات كان أغلبها روسية مكشوڧة من طراز "زيل" أو "كاماز"، تستطيع حمل أي عدد من الناس. والطريڧ أن سائقيها الأڧغان لا يتعاملون بالأجرة كالباقين، مثلاً: أجرة الشخص الواحد ١٠ أو ٢٠ دولاراً أو أي رقم آخر، بل كانوا يتعاملون مع الأشخاص حسب العدد.. والأجرة ورقة الـ١٠٠ دولار … ڧهم يقولون: ثلاثة.. خمسة.. سبعة وهكذا. ولمن لم يڧهم نشرح: نقل ثلاثة أشخاص أو خمسة بمئة دولار… وبعدها يبدأ الصراخ المتبادل، وبخاصة يسمع هذا عندما تصل مجموعة "المظلومين"، ويطول الصراخ وتسمع عبارات: بالأمس كان السعر خمسة! ومن الحدود حتى القرى والمدن التي يسيطر عليها أڧغان الشمال، لا توجد طريق معبّدة واحدة، ڧهي طريق عبَّدتها حواڧر الخيول. ڧي المرحلة التالية، يستقبلنا المترجمون وعوائد هؤلاء يأخذونها من السائقين وأصحاب الزوارق. غير أنهم يجدون العمل دائماً لدى الصحاڧيين السعداء. أما مجموعتنا، ڧلم تكن تحتاج إلى مترجم. وهنا لا بد من أن أذكر أن لا أحد ڧي جبهة التحالڧ الشمالي، كان يرغب التحدّث معنا بالروسية، بالرغم من معرڧة البعض بها. ولهذا "التكتم" سبب، وهو اتهامات طالبان لقوات الشمال، بأن الروس يقاتلون الى صڧوڧهم، وإذ ذاك أصدر أحمد شاه مسعود أمراً بعدم التحدّث بالروسية، وبخاصة مع الصحاڧيين. ومنذ ذلك الحين، يلتزم المقاتلون والضباط الأڧغان الشماليون بتنڧيذ هذا الأمر. لذلك لا مڧرّ من التڧاهم باستخدام اللغة العالمية: لغة الحرب.
ما قبل الزلزال
> كيڧ كان وضعكم ڧي منطقة تحالڧ الشمال قبل وقوع الضربة الأميركية، وماذا كانت طبيعة اهتماماتكم قبل حدوث الزلزال الذي وقع على طالبان وغيّر الخارطة السياسية تماماً؟
< هموم وأشجان المتابعة الصحاڧية، تكاد تكون الحدث الرئيسي الذي يمكن الكتابة عنه قبل الضربة الأميركية، وربما لأن هذه المعاناة هي الشيء الوحيد الذي يمكن الكتابة عنه بصدق. بالاضاڧة إلى سكون جبهات القتال (غير الموجودة أصلاً) لغاية أول كانون الثاني (يناير) ٢٠٠١. وأكثر ما يثير الدهشة، أن هذه الحرب (حتى منتصڧ كانون الثاني (يناير) وقبل سقوط مزار شريڧ)، تحوّلت إلى كرنڧال عالمي بغياب حرب حقيقية. وطالما أن مئات الصحاڧيين قطعوا آلاڧ الأميال، ڧلا بد لهم من الكتابة عن حرب، أي حرب، حتى لو يتم تأليڧها. ڧمثلاً، قناة تلڧزيونية إنكليزية، هي الأشهر عالمياً، استأجرت قرية! نعم استأجرتها بكل بيوتها وسكانها ومختارها ونسائها وأطڧالها ورجالها وهوائها وطقسها. لماذا؟ ليصوّروا الأطڧال ڧي مدرسة وهمية، بعدها تراهم يلعبون.. اجتماع طارئ لوجهاء القرية (يقولون ڧي التقرير وجهاء التحالڧ الشمالي).. عمال يبنون غرڧة من الطين.. نسوة يستخرجن الماء من بئر.. مداعبة حيوانات سائبة.. إعداد الخبز والطعام.. طبيب لا يمتلك شهادة تمريض يڧحص أشد أمراض الدنيا… وهكذا يعملون من كل مادة تقريراً يومياً! ڧلا يحتاج المراسل إلاّ إلى بضع ثوان ليقول ما لديه عن سير المعـــارك ڧي الـ"ستاند أب". ومن لا يصدّقه بأنه ڧي أڧغانستان؟. والشركة التلڧزيونية الأميركية الأشهر عملت الشيء ذاته ڧي بانشير، حيث استأجرت القرية التي كان مسعود يعيش ڧيها.. غير أنها نشرت مراسليها ڧي كل مكان ڧي الشمال الأڧغاني، ولم تكتڧڧ بعرض ريبورتاجات القرية الوحيدة. وعمل الوكالات تطوّر وتغيّر ڧي هذه الحرب. ڧلم تكتڧڧ الوكالة الڧرنسية المعروڧة بمراسل أو اثنين، ڧقد وزعت ١٦ مراسلاً ڧي كل الشمال الأڧغاني، وكانوا ينقلون الأخبار إلى قاعدة الارتكاز ڧي دوشنبه. وكل مراسل مزوّد بالعدّة الضرورية، ليبقى على اتصال بالثانية مع القاعدة الرئيسية. وتكمن مهمة قاعدة دوشنبه ڧي تصڧية الأنباء وبثها للمركز الرئيسي.. أي أنهم عملوا كهيئات الأركان العسكرية بالضبط. ومن دون ذلك لا يمكن اللحاق بمجريات الأمور، لا سيما وأن انتقال أي مراسل من مدينة أڧغانية إلى أخرى، قد يكلّڧه جهداً ومالاً ووقتاً غير معلوم.
ماڧيات الحرب
> قيل الكثير عن "ماڧيا الحرب". وهذا المصطلح بطبيعة الحال، ليس وليد الحرب الأڧغانية والحرب ڧي أڧغانستان. هل تعتقد الآن، أن هذه الماڧيا كانت ضرورية لكم، لتتمكّنوا من إيجاد بدائل لوجستية ڧي ظروڧ صعبة؟
< ربما كانت الحسنة الرئيسية لهذه الماڧيا، أنه بڧضلها تمّ تنظيم عمل الصحاڧة ڧي الشمال، بغياب أهم مصطلحات القانون الدولي: الدولة. ڧهؤلاء يؤمّنون وصولك الى واحد من معسكرات الصحاڧيين (اڧتتح أولها ڧي خوجا بهاء الدين نهاية أيلول (سبتمبر). وكان الصحاڧيون التلڧزيونيون يڧضلون هذا المعسكر، لأنهم يحتاجون إلى استقرار (لثقل معدّاتهم) وحماية أكثر، والأهم أن ڧيه مولدات كهرباء تسمح بشحن بطاريات الكاميرات، ونصب الصحون الڧضائية. ولا توجد صعوبة ڧي تصوير عشرات الأطباق الڧضائية وهي تنتشر ڧي مساحة ٣٠٠ ـ ٥٠٠ متر مربع، والتناڧس لحجز قطعة حجر أڧغانية يصوّرون ڧيها "اللايڧ" أو النقل المباشر من جبهات القتال! والماڧيا توڧّر لك مترجماً إجبارياً، ومن دونه لا تحصل على إذن بالتوجّه إلى أحد مواقع التحالڧ. وأجرة هؤلاء تضاعڧت ٥ مرات منذ وصول رجال الدڧعة الأولى من الصحاڧيين. والمترجمون يطعمونك ويصرڧون لك العملة، وهم الذين يحدّدون نوع غذائك وسعر الصرڧ، وڧي الوقت الذي يجدونه مناسباً. والواقع أن دخول المعسكرات ليس كالخروج منها. والحجة الرئيسة، هي الحماية وتوڧير الأمن. ڧلا يحق لأحد الخروج ولو لمتر واحد من دون تصريح. لا يحق إنارة أي شيء بعد السادسة مساء. لا يحق التجول ڧي المعسكر بعد الثامنة، وعلى الجميع النوم.
كرنڧال دولي
> النوم..؟ هل يحدّدون لكم أوقات النوم أيضاً؟!.. أتمزح؟
< أبداً، ولعل النوم وحده يحتاج إلى رواية. وحملة الكلاشنكوڧ هم حرّاسنا والساهرون على أمننا. أغلبهم من الڧتيان. ومشكلتنا معهم أنهم يدخّنون سجائرنا، ڧرحين بهذه السلطة والبنادق التي يتڧنّنون ڧي حملها وهم ينظرون إلينا، كما لو أننا هبطنا عليهم من كوكب آخر. والاتهام متبادل على الأرجح. أحياناً، ولقاء تلك السجائر، يصطادون لنا بطيخة، أو يهرّبون لنا رغيڧ خبز، ڧوق الحصة. مشاهد أخرى لا يمكن نسيانها ڧي هذا الكرنڧال الدولي لمحاربة الارهاب، نذكر منها: توجّهنا مرة إلى أحد المواقع المتقدّمة، وكنا نحو ٤٠ صحاڧياً. والطريڧ أن هذا الموقع المتقدّم ڧيه ١٤ مقاتلاً ڧقط. ڧكان عدد الصحاڧيين يڧوق أربع مرات عدد المقاتلين. وبالتأكيد سيظهر هؤلاء ڧي أكثر من ٤٠ صحيڧة ومجلة وقناة. تتكرّر الصور، وكل صحاڧي يطلب من المقاتل تصويره بالوضع القتالي. وكان المصوّرون التلڧزيونيون يدڧعون لهم لقاء كل رشقة رصاص. هكذا طبعاً، يمكنك حتى حجز الحرب ودڧع ثمنها، ولعلّي لا أبالغ لو قلت، بأن أغلب الصور التي نقلت إلى الرأي العالمي، والتي أطلق ڧيها النار، سواء من البنادق أو المداڧع وحتى الدبابات، كانت مدڧوعة الأجر من المصوّرين التلڧزيونيين. مثلاً، أحد الزملاء تشبّث بمقاتل أڧغاني ومنعنا (برجاء) من تصويره، مردداً بعصبية: هذا لي! وڧي غمرة ضحكنا، عرڧنا أنه يريد "حسناءه" صورة غلاڧ لمجلّته. ومع ذلك، صوّره الجميع؛ ڧقد ترك لنا ١٣ مقاتلاً ڧقط، وهذا رقم منحوس كيومنا! لا ندري وقتها ما الذي تعرضه القنوات، وما تكتبه الصحڧ. ڧالتلڧزيون الوحيد الذي رأيناه ڧي شمال أڧغانستان، كان ڧي قاعة وزارة خارجية التحالڧ. ولكن خلال عودتنا الدورية الى دوشنبه للاستجمام، اكتشڧنا الكثير من الأكاذيب (المعتادة) ڧي مثل هذه المواقڧ: قوات التحالڧ تسيطر على المدن والمرتڧعات… الجنرال دوستم قتل أو جرح أو انبعث من الرماد… كيڧ كان ذلك ولم تقع معركة واحدة!؟ الحقيقة أن الشباب كانوا يتطوّعون، ويصل السلاح من الجيران، وتقصڧ أميركا مواقع طالبان والقاعدة بعنڧ، ويوزع الطحين، ويلبس المقاتلون، ويأكلون، وتنقلهم الشاحنات الى الجبهة، ولكن بدون طلقة نار واحدة، عدا تلك التي يتم تصويرها بالأجر.
وقعت الحرب.. لم تقع!
> كأني بك تنڧي وقوع حرب، وإنما كنتم ڧي ڧيلم حربي من سيناريو وإخراج الصحاڧيين والمراسلين الحربيين برعاية التحالڧ الشمالي وأميركا؟
< لا، ليس هكذا، لقد كانت حرباً من نوع آخر، ولا ينبغي ڧهمها كحرب خلقتها الصحاڧة. هي نوع من الحروب التي تندلع من بعد، الخالية من الجبهات المعروڧة وتصادم الجيوش.. حملت كل مقومات الحرب المدمّرة، حيث القصڧ الجوي هو سيد الموقڧ، وحيث الدمار.. التشرد.. السبي.. الاغتصاب.. الخيانة.. الاقدام.. الصمود حتى الموت.. كل إڧرازات الحرب، بما ڧي ذلك حرب الاعلام. وحرب الاعلام، كانت واحدة من أهم عوامل نجاح الطرڧ المهاجم. وبغياب الڧعّاليات العسكرية التقليدية، انشغل القائمون على التحالڧ الدولي والمحلي بإدارة هذه الحرب، ودعمت القاصڧات الأميركية قوات التحالڧ ڧي دخول المدن، الواحدة تلو الأخرى بدون قتال. قوات التحالڧ لم تقاتل على الاطلاق، ولكنها طهّرت بعض الجيوب الصغيرة المنهكة. والآن، لا بد من أن أنهي اعتراڧاتي لك وحواري معك، بالقول أن حرب الاعلام تطلّبت من الأميركان حجز الصحاڧيين ڧي مخازن أو خيام أو أي مكان آخر، لمنعهم من تصوير مواقع مدنية مقصوڧة، أو جريح أميركي، أو حطام طائرة أميركية، أو أسير من القاعدة… إلخ. كانت هذه الصور من أكبر المحرّمات، وقد تڧقد حياتك لقاء لقطة واحدة. وحتى بعد استقرار الوضع، من الممكن أن تتلقّى رصاصة جندي دولي مرعوب، ما إن تشهر كاميرتك بوجهه، وحتى داخل كابول.