الأحد، 3 مايو 2009

لابد من صنع زمننا العربي الخاص بنا

إكرام عبدي
الثلاثـاء 28 صفـر 1430 هـ 24 فبراير 2009 العدد 11046
جريدة الشرق الاوسط
مما لاشك فيه أن مصطلح «القرية الصغيرة» الذي يُطلق على العالم الآن، يهدهدنا ويشعرنا بالأمان، لما تحمله هذه الكلمة «قرية» من معاني البراءة والحميمية والفطرة والدفء والألفة، بعيداً عن كل أجواء التوتر والتشنج والبرودة والاستهلاك وإرادة التسلط التي تسود العالم، لكن هل فعلا العالم قرية صغيرة؟
يظل هذا الإطلاق مزهواً بأحلامه، يستدرجنا بذكاء لنتيه في حالة تخبط وعماء، إطلاق توهيمي وتخديري وملغوم، ربما نعيش في عالم تنعدم فيه الحدود والفواصل، مدجج بثورة معلوماتية واتصالاتية هائلة، يجعل المسافة بين أقصى الأرض وأدناها مجرد رمشة عين، ونستأنس فيه بالخفة كرد فعل على ثقل الحياة وتحجر العالم كما يرى إيتالو كالفينو، ربما نعيش في عالم «ليبرالي» منفتح يسمح بسرعة انتقال المعرفة والمعلومات والأفكار والقيم والمكتسبات الإنسانية، وأحياناً البشر إذا اقتضت المصلحة، لكن في العمق هو إطار زخرفي يختزن زمناً آخر «إمبريالياً» يمارس علينا نحن العرب كل أشكال الهيمنة والغطرسة الثقافية والاقتصادية والسياسية، ويخضعنا لكل أشكال التبعية والاستلاب والتهجين.
تبدو المراسلة عبر «الإيميل» مع شخص يعيش في أميركا أمراً ممتعاً، يشعرنا بنوع من المرونة والرحابة والسفر في المطلق واللانهائي، يجعلنا نتوهم أننا نعيش زمناً واحداً، نعيش والآخر زمن العولمة والحداثة وما بعدها، زمن العقلانية والديمقراطية والحرية والعدالة، نتلذذ بهذا الزمن المشترك الذي يجمعنا، لكننا نستفيق على الحقيقة المرة، في عراء تام من منظومة القيم التي طالما استندنا إليها، مثقلين بغلواء حنقنا من واقع عربي يتوهم مسايرته لعالم متغير، فنكبت هذا الصراع الخفي في صمت، نتفيأ ظلال الماضي والتراث أحياناً، نتقوقع وننعزل أحياناً أحرى، نناصب العداء والكراهية ونعلق أخطاءنا على شجرة الآخر، ننفتح على الآخر بحرية وبدون أية مناعة، لكن في العمق ندرك أننا نستظل زمناً ليس لنا ونرتع في عالم أثخنته الأوهام والتلفيقات والشعارات، مهووس بحداثة زاعقة معوقة نتشدق بها كلما أتيحت لنا الفرصة في الملتقيات، عالم تم فيه إسقاط القيم الأميركية على كل الثقافات العالمية، مهددة بذلك كل قيم الاختلاف والتعدد التي نادت بها فترة ما بعد الحداثة، عالم لا مكان فيه لحوار الحضارات ولا المثاقفة، وأي حوار هذا في ظل الهيمنة وأحادية القطب وانعدام التكافؤ والرغبة في الإلغاء والإقصاء لتعزيز الذات الأميركية، عالم ما زال نادماً على فقدان بعض أطرافه في حركات تحرر وطنية من أغلال الاستعمار، ليستعيدها من جديد في عملية استعمار جديد، عالم غربي قطع أشواطاً مهمة منذ عصر النهضة والتنوير، وكان مؤهلا عند حلول عصر العولمة للانتقال من المجتمع الصناعي إلى المجتمع المعلوماتي بمشروعية وجدارة. عالم ليس «عصر أحلام ولا عصر معجزات بل عصر حسابات دولية وضرورات اقتصادية وخطوات سياسية» كما يقول عابد الجابري.
لكن ماذا عن زمننا العربي المفقود، هل سنظل نبكي عليه كما بكينا طوال العقود الماضية على الأندلس، وكما نبكي اليوم القدس، هل سنظل أسرى زمن الآخر، متوهمين أنه زمننا؟
لهذا لا بد من الجرأة لمواجهة الذات العربية ومصارحتها بماهيتها، وننظر إلى أنفسنا في المرآة، كي نبصر عن قرب كل شروخها وتصدعاتها، كفعل يسندنا في تعاملنا مع شروط واقعنا ومع شروط تفاعلنا مع الآخر، لا بد من نقد الذات بدلاً من جلدها، والوعي بأننا نعيش زمناً ليس لنا، بل صنعه الآخر واستدرجنا إليه بدهاء ميكيافيللي، ونحن غير مؤهلين بعد للانخراط فيه، وما زلنا نعيش مرحلة ما قبل الحداثة، بأنظمتها الاستبدادية، بسجونها، بتدخل الدولة الدائم في اقتصادها، وبكل كبت وقمع للحريات، وتفاوت صارخ في توزيع الثروات، وقهر وإذلال لكرامة الإنسان، بلاديمقراطيتها بشكل يخلق الهوة بين الشعوب والحكومات ويفتح الباب على مصراعيه لغزو الإمبراطوريات العالمية للشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها، وأنه يلزمنا الوقت الكثير كي نعيش الحداثة بحذافيرها، ولا نتشدق بها فقط في المؤتمرات والندوات، وطمأنة ذواتنا أيضاً بأن زمننا العربي كان يمضي في سيرورته الدياكرونية الطبيعية لولا توقفه أثناء فترات الاستعمار الغربي لنا، وضرورة الوعي بجشع نظام رأسمالي حوّلنا إلى سلع استهلاكية، نظام تنبأ له كارل ماركس بالكثير من الأزمات، وبحتمية انهياره مهما طال الزمن، نجا من أزمات سابقة بالكثير من المرونة وحسن التصرف، لكنه اكتوى اليوم بنار أزمة مالية كانت أشبه بحرب عالمية مسرحها وول ستريت، لابد من الوعي بأن هاته العولمة هي «أمركة العالم»، هي أمركة القيم، السلع، والأفكار، والمعلومات والمعرفة.
لا بد من المقاومة لصنع زمننا العربي الخاص بنا، مقاومة لن تستعين بقوة السلاح والاقتصاد طبعاً، مقاومة ثقافية وإن كان العرب يمثلون، كما يقول عبد الله العروي، «أقلية ثقافية»، لهذا لابد من تحيين خطاب عربي جديد، وصناعة مخيال جديد لنا، بالكتابة من جب معاناتنا وآلامنا وأوجاعنا، بعيداً عن كل غرائبية تهدهد مشاعر الآخر وخطابات مترهلة وفضفاضة مستهلكة وانهزامية، وفضح ذواتنا وتعريض تلك البثور المتعفنة للشمس كي تندمل وتنمحي، كي لا نترك للآخر فرصة كتابتنا وتشويه حقائقنا، لنكتب أوطاننا نحن بصدق وجرأة، مثلما كتب فيركور رائعته الشهيرة «صمت البحر» التي تعد أشهر رواية عن المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، ومثلما كتب همنغواي عن الحرب الأهلية الإسبانية، ومثلما كتب اليهود بإسهاب وحرقة عن محرقة أوشويتز، كي يبرروا كل ما سيقومون به من جرائم ووحشية، لكن دون إغفال اليوم بعض الروايات التي تناولت المأساة العراقية، مثل رواية «الحفيدة الأميركية» لإنعام كجه جي، و«أموات بغداد» لجمال حسين علي، و«بنات يعقوب» لمحمود سعيد، وأغلبها يتناول أحداث العراق بعد سنة 2003.
فالمقاومة حاضرة في جل الأعمال الإبداعية العربية لكن ليس بالشكل المطلوب، لهذا فالراحل محمود درويش يقول في أحد حواراته: إن «الإسرائيليين يكتبون الوطن أفضل منا، وهذه هي مأساتنا الثقافية»، وأؤكد قوله هذا بقصة طويلة تقع في خمس وسبعين صفحة، كتبها أ.ب. يهوشواع عنوانها «ثلاثة أيام وطفل» ورد ذكر «القدس» فيها اثنتين وخمسين مرة كمحاولة لترسيخها في الذاكرة الإسرائيلية، في حين تغيب القدس في أغلب النصوص السردية العربية، وإن كانت تحضر بين الفينة والأخرى في الشعر العربي.
لكن المقاومة الثقافية التي أشدد عليها لا تعني فقط الكتابة عن مقاومة الاحتلال والغزو الأميركي - الإسرائيلي سواء بشكل صريح أو مبطن في أعمالنا الإبداعية وكتبنا الثقافية والفكرية، ولكن بإنتاج معرفة وفكر ورؤية للوجود والعالم بعين عربية صرفة، على الأقل كي نطفو على سطح العالم ولا نندثر من خريطة مشكّلة بمزاج أميركي، وإبداع أعمال راقية جدية وإنسانية تناطح السحاب وتثقب غشاء أوزون هذا العالم الاستهلاكي المادي، تمتد في عمق ذاكرتنا وتاريخنا وتراثنا، ترج فكر الآخر وتجعله يحترم ذاتنا العربية عوض أن تدغدغ مشاعره أو تقدم له مادة فولكلورية تبهره وتسافر به في زمن عجائبي، أعمال تكسر كل جاهزية ووثوقية، تسبر أغوارنا، تقاوم كل محاولة لتسطيح القيم الإنسانية، وكل ترف فكري، وتقاوم كل تبعية وخنوع واستكانة، وتبرز قدرتنا على الإبداع والخلق بالتفاعل مع الماضي والحاضر، للتحرر من كل هامشية ودونية وانتقاص من قيمة الأنا، وتتخلص من تلك النبرة الانهزامية وانسداد الأفق، أعمال تغير من صورتنا في مرآة الآخر وتقدم له صوراً أخرى غير صور التفجير والترهيب، وتمنحنا سلطة نفتقدها سياسياً واقتصادياً، تنافح وتذود عن كل القيم الإنسانية والكونية، مؤمنة بأن هناك «كليات إنسانية» مشتركة بين بني البشر، محققة نبوءة جوته القائل بـ «عالمية الأدب»، أعمال لا تؤمن بإرادة الهيمنة والغزو والسطوة، بل تحلم فقط بأن تنعم بخلود جلجامشي هادئ في حضن التاريخ.
* كاتبة مغربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق